حكاية الدنيا

21 ابريل 2022
+ الخط -

هذه الدنيا المليئة بملايين الحكايات كل يوم، وأنت الذي تكتبها مرارا، إلا أنك أحيانا تشتاق لحكاية، حكاية في الغمز والفطنة والغرام وخفّة الظل، هل خفّة الظل قلّت، أو شبه نادرة في هذه الدنيا؟ هذه الدنيا التي خلقت كل هذه الحكايات، حكايات من البحر والأسواق والغيطان في الشرق والغرب والموانئ والسفر، وحتى في الأحلام، حكايات تبعدنا عن هذه الحرب.

حكاية عن الحمامة التي كانت تتأمل ملكا خاف على ملكه، حتى مات بجوار ضفدعة، وهو يكلّم النجوم، حكايات الخطّافين واللصوص، والعميان في أروقة الأزهر والزيتونة "ما أجمل رواية عرس بغل للطاهر وطار"، أشتاق لها الآن في هذا الزمان الذي بخل بالجمال، وجاد بالكآبة والحرب، حكايات الفرانين أمام أفران المماليك، لماذا هاجرت خفّة الظل حكاياتنا ومسلسلاتنا؟ هل زعلت النجوم؟ هل انفض سامر الضحك من فوق مائدة العالم الذي كان مليئا بالضحك والفقر، وأصبح مليئا بالبنوك والتعاسة والمدرّعات والصواريخ ومصانع الدبابات وقاذفات الصواريخ وملابس الجنود المساكين ونياشين الضباط؟

أين القهوة في فناجين الفقراء تحت سور القلعة وحكاياتهم عن اللحم الذي سرقه العميان من "تكية أم زين"؟ أين ضحك الفلاحين تحت أشجار السنط، حينما نطّ قرموط من السمك في لباس الحاج عبد الغفّار، وأخذ الحاج يجري بالقرموط في مزارع الشامي وزوجته تضحك أمام برّاد الشاي تحت شجرة سنط كان يحوّم حولها اليمام حزينا، فحكى لها عن ذلك النمر الذي نام فوق "خرجه" للصباح وهو ذاهب إلى الحجاز؟ هل صار غرام الضحك غالي الثمن، بعدما سيطرت المسلسلات على عيون الجماهير، مسلسلات مصنوعة في مطبخ بلا خميرةٍ من أي ضحك ولا خفّة ظل، بل فقط تمجّد في شخص واحد استطاع، بقدرة الله، أن يُمسك هذه البلاد المسكينة جدا والفقيرة جدا، ويضعها تحت خاتمه السحري، ويقرأ فناجينها كلها بخفّة ظلّ تحسده عليها النجوم، وملأ كل شاشات رمضان بذكائه الحادّ وفطنته في إدارة مأساة العالم، لو حاول العالم أن يُنصت لحكمته، ولكن للأسف العالم لا يُنصت له.

هل مات الضحك في هذه الدنيا إلى هذا الحد؟ الحد الذي يصدُق فيه أن شخصا واحدا فقط من بين المائة مليون استطاع وحدَه أن يمسك مصر ليلا، ويدفع عنها كل الأخطار التي تحدق بها، وعرف وحده أن يفصل الخيط الأبيض من الأسود في الفجر، وحضن غيطان البلاد كلها ومصانعها وبنوكها ومطاراتها في حضنه وحده، مثل طفلةٍ صغيرة، وأخذ يجري بهذه الطفلة وحده أيضا ما بين الجبال والصخور حتى أوصلها إلى برّ الأمان.

هذا "السوبرمان"، الهادئ الطيب المصلّي المطيع لزوجته ويقف معها في المطبخ في العزومات التي ترهقها، هذا الطيّب كاشف الأسرار بفضل الخاتم السحري وكاشف الأستار عن كل خبايا الوطن والعالم كله، رغم أن العالم لا يسمعه، ولو استمع له لتغيّرت فيه أشياء كثيرة، وانتهت الحرب، هذا الطيب الذي استطاع أن يأخذ هذه الطفلة وحده إلى برّ الأمان في عزّ كل هذا السواد الذي يحيط بالعالم، ولم تضع منه حبّة رمل واحدة، ولا تيران وصنافير ولا حتى الجن، واستطاع أيضا نشر الضحك والمرح والنكات في كل ربوع الوطن، علاوة بالطبع على مئات الأفلام السينمائية العظيمة التي طافت كل مهرجانات العالم، علاوة على "4 ملايين نخلة" تغني في الواحات، و"4 ملايين فدّان قمح في الصحراء" تناطح قمح أوكرانيا وروسيا معا، وطائرات الرافال، و"24 سجنا" على أحدث طرز العالم حيث الاكتفاء الذاتي فيها بالزيتون والمانغو وأم الخلول والبقية في الطريق قادمة في السجون الخمسين التي تنوي الدولة تشييدها في ربع القرن المقبل، خوفا من أهل الشر وأخطارهم. هذا بالطبع علاوة على قناة سويس جديدة من الألف إلى الياء، فهل هذه الدنيا الجميلة المليئة بكل ألوان الحكايات تحوّلت فقط إلى حكاية واحدة لشخص واحد وحيد يأخذ طفلة صغيرة في حضنه، طفلة مسكينة اسمها مصر، بلا أبٍ وبلا أمٍ ولا خالٍ ولا عم، طفلة يتربّص بها أهل الشر، حتى جاء هذا الملهم ومشى بها إلى برّ الأمان فوق قضبان السكة الحديد من ميناء دمياط حتى أحراش أسوان، ولم يحدث لها أي سوء، رغم أنه يمشي فوق قضبانٍ لغّمها كلها أهل الشر بالقنابل والديناميت والمفرقعات.