حصّة رياضة
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
مع تقدّم الوقت والعمر، نكتشف أن حصة الرياضة أكثر ما ظلّ باقياً من أيام الدراسة. كانت الحصّة المدرسية حوالى أربعين دقيقة، وهي الحصة اليومية، أو شبه اليومية، نفسها من المشي التي يُنصح بها عادةً، حين يصل المرء إلى عقده السادس.
"العمر أرقام".. سمعتُ هذه العبارة أول مرّة من الكاتب الصديق محمود الريماوي. عبارة لا تحتاج كثير تفسير. يكفي، مثلاً، أن ترى ثلاثة أو أربعة أصدقاء في عمر السبعين يتنادمون في مقهى، ولكنك حين تتفرّس في هيئاتهم، قد تكتشف أن بينهم من يبدو وكأنه يصغر البقية بعقدين، بسبب رشاقته التي ربما تكون ناتجةً عن صرامة في الامتناع عن أكل الحلويات والنشويات، وحرصٍ على ممارسة الرياضة.
ولكن هل فقط الرياضة التي لها دور في إشاعة الصحة وإطالة العمر؟ ربما إذا تبعت الرياضة البدنية رياضة أخرى روحية، مع مشاعر موجبة تجاه تقبل الحال والقناعة به، عبّر عنها، خير تعبير، البيت العربي: والنفس راغبة إذا رغّبتها/ وإذا ترد إلى قليل تقنع.
وبالعودة إلى أيام الدراسة، بقدر ما كانت حصّة الرياضة متنفساً مريحاً لنا، نحن التلاميذ، ننتظرها بفارغ الصبر، حتى وإن كان بعض المدرّسين لا يؤدونها كما يجب في ساحة الملعب، خصوصاً في أوقات الحرارة الشديدة، إنما داخل غرفة الفصل، إلا أنها كانت بمثابة استراحة ومسرح للمرح وسانحة مناسبة لتمرير الشطحات. وكان المعلّم يتضامن مع هذه الخفّة المؤقتة، ولا يتدخّل عادة إلا إذا جاء تلميذٌ من فصلٍ ملاصق يدعونا إلى الهدوء، لأن معلّم حصتهم لم يستطع أن يوصل معلوماته كما يجب، بسبب الفوضى العارمة في فصلنا. هنا يتدخّل أستاذ الرياضة في تهدئة النبرة العالية للتلاميذ وترويضها. ولكن، ماذا لو جاءت حصّة الرياضة هذه بعد حصّة مادة الرياضيات؟ تلك الدقائق الأربعين في مادة الرياضيات التي كانت تمر كالمشي على صفيح ساخن ستعبر في حصة الرياضة قصيرة كأربعين ثانية.
في الطفولة في مطرح كان يوجد في السوق دكّان التاجر، ثاني حبيب، لبيع المواد الغذائية. ولكن، بعد الإعلان عن النتائج المدرسية، وخصوصاً في المرحلة الإعدادية، كان يركض إليه الحاج سعيد بن سليمان، وهو كذلك يمتلك دكاناً صغيراً في قلب الحارة الداخلية، فكان يركض، يسبقه صوت ندائه العالي "ثاني الأولاد يبحثون عنك.. أولادنا يبحثون عنك يا ثاني حبيب"، وذلك لأن كثيرين من أبناء حارتنا "كهبن" (تعني بالبلوشية "تحت الجبل") قد حصلوا على "دورٍ ثان" في مادة الرياضيات، فتحلق العبارة في ذهن الحاج سعيد بن سليمان، ساخرةً، خصوصاً وأن ضمن الذين لديهم دور ثان بعض أبنائه وأحفاده.
عادةً، أذهب من أجل أداء حصة الرياضة إلى شاطئ السيب، الولاية الملاصقة للعاصمة مسقط من جهة الشمال، حيث يوجد شاطئ يمتد إلى قرابة الثلاثين كيلومتراً، وفيه ممشى من الجانبين، أحدهما يواجه البحر. وفي الصباح الباكر، يكون الشاطئ ممتلئاً بالرائحين والغادين، رجالاً ونساء. كنت عادة أمشي فيه ما يقارب خمسة كيلومترات تقريباً، يومين في الأسبوع في أقل تقدير. وحين قست المسافة من مكان انطلاقي، وكان هدفي شجرة عملاقة نبتت بدون تدخّلات بالقرب من أمواج البحر، كنتُ بعد أن أقطع ذلك الوقت من المشي أقف لأتأملها، وأتساءل كيف يمكنها أن تقف بكل هذه الشساعة والاخضرار وهي تشرب من ماءٍ مالح؟ ولكن الطريف أنني حين حسبت كيلومترات المشي إليها وجدت أنها بالتمام كيلومتران ونصف الكيلو. ومعنى ذلك أن الذهاب إليها والرجوع منها سيكون مقداره خمسة كيلومترات. لذلك سمّيتها شجرة الاستنارة. وهذه الشجرة هي التي نام تحت ظلها بوذا، حين خرج من القصر كما تحكي الأسطورة الهندوسية.
حصّة الرياضة هذه التي أكثر ما ورثناه من طفولة الدراسة الأولى أصبحت ضرورية، ليس لتمارين البدن فحسب، إنما أيضاً لتعديل المزاج والاندماج مع الطبيعة والتحرّر ساعة من وسائل الاتصال، وخصوصاً الهاتف، الذي من المهم تركه جانباً في أثناء المشي والتحرّر منه، ولو ساعتين في الأسبوع، إذا استثنينا الساعات المتقطّعة للنوم.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية