حزيران ممدوح عدوان
عندما تعرف أن الطبعة الأولى في 1969 لرواية الشاعر والمسرحي والمترجم، والساخر الباقي، ممدوح عدوان، "الأبتر"، صدرت عن قسم الإدارة السياسية (التوجيه المعنوي) في وزارة الدفاع السورية، تندهش لسببين: أولهما أن هذه الرواية، وإنْ أرادت احتفاءً بالصمود على الأرض وإرادة المقاومة ضد المحتلّين، بعد حرب حزيران 1967، في قريةٍ سورية، إلا أنها أيضا تتضمّن سطورا تهجو أنواعا من جنود البلد، "عددٌ من أهل القرية يحبّون الجنود لأنهم يحمون الحدود. وآخرون يكرهونهم لأنهم يسرقون المواسم أو يُفسدون الأراضي بالطرقات والحفر". ثانيهما أن ممدوح عدوان كان للتوّ قد انطلق شاعرا ترسَّم اسمُه بعد إطلالات قصائدِه في الدوريات والصحف البيروتية والسورية، وأصدر مجموعتين شعريّتين تدلّان على المجرى الذي ستمضي موهبتُه إليه، وإلى موقعه في خريطة القصيدة العربية الحديثة، فضلا عمّا صار عليه كاتبا مسرحيا نشطا وسيناريستا على كفاءةٍ عاليةٍ ومترجم رواياتٍ وأشعارٍ ذوّاق. وبذلك، لماذا يعمَد إلى كتابة هذه الرواية شديدة البساطة، والفقيرة بمعنى معيّن، وإنْ حضرت فيها لغة الشاعر الممتلئ (هذا بذاته ليس صفة حميدة بالضرورة في كل رواية)؟
هي هزيمة حزيران المشهودة، التي عبرت ذكراها الـ56 الثلاثاء الماضي، السبب في التقاط تلك الرواية البعيدة لشاعرٍ ومسرحيٍّ وكاتب مقالةٍ مجدّ، لم يكتب روايةً ثانيةً بعدها إلا التي صدرت في العام 2000 "أعدائي". ولذلك، ولغير سببٍ وسبب، ليس دافع هذه السطور إخضاع الذي كتبه ممدوح عدوان سردا (روايةً لا شعرا) تحت وطأة اللحظة الحزيرانية، في حرارتها، تحت مبضع أيّ نقد، وإنما التأشير إلى واحدةٍ من تمثّلات التعبير الثقافي العربية، على مستوى القصّ هنا، عن تلك الهزيمة. وهنا، لا يستقيم التهوين من قيمة الرواية قليلة الصفحات "الأبتر" مع التأشير إلى قيمتها (الثقافية) المؤكّدة في الجهر بالهزيمة، بإعلانها حقيقةً ماثلة، بل أيضا بتبيان القوّة التي يقيم عليها العدوّ، في مقابل ما لا يملكه السوريون غير إرادة فلّاح عجوز، الثبات في أرضه وقريته رغم نزوح أهلها عنها. إذا قوبلت شخصيةٌ كهذه، في روايةٍ، باستحسانٍ، وبكلامٍ عن ترميزاتٍ فيها (قد لا تحتملها؟)، فإننا نكون في دائرة المجاز والتعالي على الحقيقة، الحقيقة التي أشهرها صاحب "ليل العبيد"، وتقوم على السؤال عمّا إذا كانت البطولة الفردية قادرةً على استرداد الحقّ.
هذه البطولة باديةٌ في الشخصية الرئيسية، في "الأبتر"، العجوز إدريس، صاحب الأرض والبيت والبقرة. وفي موضعه الصحّ تماما ما كتبه نبيل سليمان إن "تقديس" الكاتب بطلَه هذا، ومبالغته في النمذجة، جعلاه يقع في عدّة مطبّات. لقد بدا الحوار بين إدريس والشاب الفدائي، الطالب الجامعي حامد، على كثير من المدرسيّة، حيث النبرة عالية الثقافة لدى حامد، مع العجوز الذي يحيّره ما يسمع بقدرٍ ما. وكأنه احتاج إلى شحنةٍ إضافيةٍ تسعفه في تحدّي المحتلّ الذي يصرّ على انتزاع أرضه. يتحدّاه، يرفض التفاوض معه، وهو الذي يجادل الذين يقولون له عن خسارة الحرب إن الجيش هو الذي خسر الحرب أما هو فلم يخسرها، "أنا صاحب الأرض، ما علاقتهم بالأرض والبقرة؟". وذلك كله قبل أن تنتهي الرواية باعتداء جنود العدو على حقول القرية، وإطلاقهم الرصاص عليه، فيما كان يُمسك بالحبل المربوط بالبقرة "كان الدمُ النازفُ من عنقه قد اختلط بالتراب تحته، اختلج قليلا، فانجبل الترابُ الدامي على وجهِه الذي انكفأ مع الشهقة الأخيرة".
كان العجوز إدريس وحدَه في قرية المنصورة التي غادَرها الجميع، بمن فيهم رفيقٌ له كانا يستطيبان الأحاديث في كل شيءٍ معا. "أنا وحدي والنار كبيرة. أنا وحدي والأرض المحترقة واسعة. وحدي وحدي". كأن ممدوح عدوان، وهو صاحب "تلويحة الأيدي المتعبة" (شعر، 1969) يطلق تلويحة إلى الشهيد الصامد. كأنه أراد التخفّف من استحقاقات الشعر الذي يريد، الشعر كثيف الإيحاءات، وقد كتب قصائد اسيتحاءً من مناخات هزيمة حزيران وأنفاسها. كأنه استمزج في نفسه رغبةً في عبورٍ ما إلى نثر الرواية، فكانت "الأبتر"، .. ثم نشرتها وزارة الدفاع.