حزيران تيسير سبول

08 يونيو 2018
+ الخط -
يكاد تذكّر الهزيمة العربية المعلومة في حزيران كل عام يصير نافلا، لا يحثّ على قول أي شيء في شأنها. ربما لأن كل ما قد يُقال جرى قولُه، أو لأن جائحة تلك الهزيمة، على هول فداحتها وعظيم ما أحرزته إسرائيل فيها، تلتْها جوائحُ عديداتٌ، بعضها متصلٌ بنواتج ما قام في ذلك الصيف قبل واحدٍ وخمسين عاما، غير أن الجوهري في أمرها أنها أحدثت فتقا واسعا لم يُرتَق بعد، بتعبيرٍ حاذقٍ للروائي الأردني، إلياس فركوح، في إطلالةٍ له على ذلك الحدث، استعاد فيها الشابَّ الذي كانه إبّانها، وختم هذه الإطلالة التي نُشرت في "ضفة ثالثة"، أخيرا، باقتباسٍ من رواية الأردني، تيسير سبول، "أنت منذ اليوم"، لا أهمية له بذاتِه في ما أرى، وإنما في قفلة إلياس شهادتَه، ذات الشجى الثقيل، بتيسير سبول تحديدا، لا بأحدٍ غيره، صاحب الرواية التي انكتبت ونشرت شهورا بعد حزيران 1967، فكانت من أولى الروايات العربية التي جنحت إلى التعبير عن الهزيمة المهولة بمزاج كاتبٍ يختبر قدرته في تجريب مغامرةٍ في السرد. وقبل ذلك وبعده، في التعبير عن حنقٍ كثيرٍ مما جرى، ولكن في مبنىً روائيٍّ جريءٍ في تجديده. وبذلك، استحقّت تلك الرواية، قليلة الصفحات، انتباها وتقديرا عربييْن مستحقيْن، دلّ عليهما تكريمها بجائزة صحيفة النهار البيروتية في 1968. 

ما الذي قالته "أنت منذ اليوم" بالضبط في شأن حزيران؟ ما الذي تفيد به استعادةٌ لها بعد خمسين عاما على صدورها؟ لم تكن معنيةً تماما بقول شيء، وإنما مهجوسةٌ بأن تكون "زفرة" صاحبها الشاعر، فتُفصح عما في جوف كاتبها مما لم يتمكّن من بثّه شعرا. أراد، في روايته الوحيدة هذه، أن يسخر وأن يهجو، بل وأن يؤشّر إلى مواطن الهزائم المتعدّدة في بدنٍ عربيٍّ خربان، بإيحاءٍ وتوريةٍ، بمباشرةٍ طفيفةٍ أحيانا، وإحالاتٍ كثيرةٍ إلى عفنٍ ثقيلٍ في غير موضعٍ في هذا البدن. أراد تيسير سبول أن يُزاول عبثا ما، عساه يفلح، في كتابة روايةٍ ذات تجريبيةٍ عاليةٍ، تقطع مع الطرائق النجيب محفوظية، ذات الحضور المهول في ذلك الزمن (وما زالت؟)، لتكون روايةً غير مريحةٍ لقارئها، مقلقةً، غير مهادنةٍ مع أي تقليديةٍ، لا تُسلم نفسها لقارئٍ يريد الموضوع من آخره. وبذلك كله وغيره، صنع تيسير سبول موازاةً نابهةً بين تمرّد شكلانيٍّ ومضمونٍ هازئ يبعثر حواسّ من يتلقّاه، فليس في الوسع أن تقبض على روايةٍ في هذا العمل، ذات مسار من بدايةٍ إلى نهاية، فثمّة مشاهد تتقاطع بتتابعٍ أقرب إلى المونتاج السينمائي. يحيّرك كاتُبها هذا في صفحاتٍ ليست قليلة، أين يجري هذا الذي يجري فيها، قبل أن تعرف أن الراوي يهبط، في العاشر من حزيران، إلى نهر الأردن، ليرى الذي حدث لبلاده، فيرى على الطريق السيارات الحربية محروقةً.
سمّى تيسير سبول بطل روايته "عربي"، في إيحاءٍ ظاهرٍ بمدلوله. وكان الراوي في بعض المشاهد والمقاطع، وغير الراوي في أخرى. سمع، إبّان كان طفلا، من شقيقه العائد من الجبهة (في 1948، لكنه لا يؤشّر إلى هذه السنة)، أحاديث عن "نفاد الرصاص وأوامر الانسحاب". وتاليا، في مشهدٍ بعيد، في زمن آخر (حزيران 1967)، يحكي "على الجسر المحطّم كانوا يعبرون، الجندي لم يعبر معهم، الجندي ميتٌ منذ ثلاثة أيام، الجندي ملقىً بكامل ملابسه الرسمية الصفراء بجانب الجسر. حذاؤه الثقيل لا يزال يلمع. ثلاثة أيام. رائحته فظيعة. غير أن حذاءه الثقيل يلمع".
لم يحضر حزيران والهزيمة المعلومة في غضونه، في رواية تيسير سبول، إلا في مشاهد قليلةٍ جدا فيها، أظنها ثلاثة أو أربعة، ما قد يسوّغ الزعم أن ثمّة تزيّدا يتورّط فيه واحدُنا إذا غالى في اعتبار هذه الرواية، النابهة الحارّة، عملاً حزيرانياً، بين مجمل رواياتٍ ونتاجاتٍ أدبيةٍ عربيةٍ انصرفت إلى التعبير عن فداحة "النكسة" اجتماعيا وثقافيا وعسكريا. ولكن، من قال إن النصوص الأدبية تُقرأ بالكيفيّة هذه. لا، ما هكذا الأمور، و"أنت منذ اليوم" حزيرانيةٌ بجدارة، رواية المغامرة الإبداعية العربية المبكّرة في التجرؤ على انتظام النص الإبداعي القائم، وفي خلخلة منظورٍ يحصر هزيمة حزيران ببعدٍ عسكري، انتكسنا فيه لا ريب.. لا، المسألة أعمق من ذلك بكثير، طاف عليها تيسير سبول بمزاجٍ خاص، عابثٍ ووجودي.. وبعد سنوات، لمّا شاهد على شاشة التلفزيون ضبّاطا مصريين وإسرائيليين يرتّبون تفاهمات وقف إطلاق النار غداة حرب 1973، انتحر.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.