حروب الطاقة والشتاء
بعد تسعة أشهر على اندلاع حرب أوكرانيا، ومع اقتراب فصل الشتاء في أوروبا واشتداده، تبلغ معركة الطاقة بين روسيا والغرب ذروتها، إذ تراهن روسيا، التي فشلت في تحقيق أهدافها في أوكرانيا، لا بل تعرّضت لنكسات كبرى، خصوصاً بعد اضطرارها للانسحاب من كييف، ثم من خاركيف، وأخيراً من خيرسون، أن يؤدّي الشتاء المتوقع أن يكون قارصاً إلى تفكيك المعسكر الأوروبي، وعزل من تعتبرهم موسكو صقوراً فيه (مثل بولندا ودول البلطيق). ولطالما اعتبرت روسيا الشتاء حليفها في أكبر معاركها على امتداد التاريخ، إذ ساهم في ردّ نابليون عن أبواب موسكو عام 1812، كما ساهم في هزيمة القوات الألمانية على أبواب ستالينغراد عام 1943.
بدأت ملامح التفكّك في المعسكر الغربي تظهر في الصحافة الغربية التي أخذت تتهم الولايات المتحدة بالتربّح على حساب أوروبا من وراء حرب أوكرانيا، إذ تصدّر شركات الطاقة الأميركية الغاز إلى أوروبا بأضعاف أسعار الغاز الروسي وبمستويات أعلى كثيراً من أسعار بيع الغاز في الولايات المتحدة. كما حققت شركات السلاح الأميركية أرباحاً كبيرة هي الأخرى من بيع أسلحة إلى دول أوروبية عديدة انبهرت بفعالية السلاح الأميركي في حرب أوكرانيا، آخرها ألمانيا التي تقدّمت بطلبات لشراء أسلحة أميركية، بما فيها طائرات إف 35، متخلية بذلك عن مشاريع مشتركة مع فرنسا لتطوير أسلحة أوروبية.
فوق ذلك، يتخوّف الأوروبيون من أن يؤدّي تنفيذ المقترح الأميركي الرامي إلى تحديد سقف لأسعار النفط الروسي إلى رفع الأسعار أكثر مما هي عليه، نتيجة توقع خروج ما لا يقل عن مليون برميل إضافي من النفط الروسي من الأسواق، ما يلحق ضرراً بالغاً بالاقتصادات الأوروبية من دون أن يؤدّي، بالضرورة، إلى تقليص عوائد روسيا المالية، التي ربما تزداد نتيجة ارتفاع الأسعار، رغم انخفاض مستوى صادراتها من النفط. وكانت روسيا قد هدّدت بأنها لن تبيع نفطها لأي دولة تلتزم بسقف السعر الذي يحاول الأوروبيون فرضه، ما يعني أن نقصاً أكيداً سيحدث في أسواق النفط العالمية، علماً أن روسيا تنتج حالياً مليون برميل أقل من إنتاجها في العام الماضي.
في المقابل، تعمد واشنطن، في محاولة منها لتهدئة المخاوف الأوروبية وإبقاء الموقف موحّداً، إلى فتح نوافذ أخرى، أبرزها إعادة النفط الفنزويلي إلى الأسواق، إذ شجعت إدارة بايدن التوصل إلى اتفاق بين الحكومة والمعارضة الفنزويلية، جرى التوقيع عليه في المكسيك هذا الأسبوع برعاية النرويج. ويعد هذا الاتفاق خطوة أولى نحو تفاهم أوسع بين نظام مادورو والمعارضة لتنظيم انتخابات عامة في عام 2024، ما يرفع الحرج عن واشنطن التي تعمل، منذ بعض الوقت، على إيجاد تخريجة تسمح بعودة شركات النفط الأميركية إلى فنزويلا. وسوف تساهم عودة النفط الفنزويلي إلى الأسواق في تحقيق أهداف عدة في وقت واحد: تشديد الحصار على روسيا، والضغط على إيران التي لن تعود هناك حاجة ماسّة إلى نفطها، وإضعاف موقف السعودية التفاوضي مع واشنطن بخصوص زيادة إمدادات النفط. وقد سمحت واشنطن فوراً لشركة شيفرون بالعودة إلى فنزويلا، واستئناف استخراج النفط الفنزويلي، ومن المتوقع أن يؤدّي ذلك إلى عودة ما بين 700 ألف إلى مليون برميل من النفط الفنزويلي إلى الأسواق، علماً أن إنتاج فنزويلا من النفط كان يصل إلى أكثر من ثلاثة ملايين برميل يومياً قبل انهيار القطاع النفطي، نتيجة سياسات حكومة مادورو والحصار الأميركي. في الوقت نفسه، سمحت واشنطن بعودة شركات النفط الأميركية إلى الاستثمار في قطاع النفط العراقي، ما يعني إمكانية زيادة إنتاج العراق من النفط ليصل إلى ستة ملايين برميل تقريباً. لكن أي زيادة في إنتاج النفطين، الفنزويلي والعراقي، لن تحصل قبل سنة، ما يعني أن أوروبا سوف تستمر في معاناتها، وسوف تستمرّ موسكو في رهاناتها على تجميد الأوروبيين هذا الشتاء لتغيير موقفهم، أو حتى إسقاط بعض الحكومات الأوروبية بفعل الاحتجاجات الاجتماعية المتوقعة، وتعب المواطن الأوروبي من حرب أوكرانيا. هذا يعني أن أوروبا علقت بين سندان موسكو ومطرقة واشنطن، وستعاني بشدة على المدى القصير، في حين أن موسكو ستعاني على المدى البعيد، أما أميركا فسوف تربح في كل الحالات في حروب الطاقة والشتاء.