حربا زيلينسكي: روسيا والفساد
حين ينهار نظام دولتي، مهما كان سلبياً، فإنه يخلق فراغاتٍ يملؤها طرفٌ ما على الأرض. في حالة انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وُلدت طبقة أوليغارشية جديدة، لا في روسيا، وريثة الاتحاد، فحسب، بل في دول سوفييتية أخرى، لعلّ أبرزها أوكرانيا. انتقلت كييف، كمثيلاتها، من اقتصادٍ مبنيٍّ على توجيهٍ من الدولة، إلى اقتصادٍ متفلّتٍ مليءٍ برجال العصابات وأطراف ذات قوة مالية، ضمن مبدأ "الاقتصاد الحرّ". وأوكرانيا، تحديداً، أشبه بكنزٍ ثمين لمن يملكه. التربة السوداء والحديد والمعادن والفحم وغيرها تضعها على قمّة الدول الغنية بمواردها، غير أن الفساد رافق بناء أوكرانيا ما بعد عام 1991، وجعلها من بين الدول الأكثر فساداً في الكوكب.
ولأكثر من 30 عاماً، تغلغل الفساد في بنى الدولة ومفاصلها، وبات صعباً اقتلاعه. وأصبحت المعارك الانتخابية تُدار من مجموعة من الأوليغارشيين. يتشابه فساد كييف مع مثيله في بيروت بنقاطٍ كثيرة. حتى إنّ الرئيس الحالي، فولوديمير زيلينسكي، اتُهم بأنه رجل الأوليغارشي إيغور كولومويسكي، في رئاسيات 2019. تحديداً، لكون كولومويسكي مالكاً للقناة التي بُث عبرها مسلسل زيلينسكي "خادم الشعب". وقبل بدء الغزو الروسي أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022، كان صعباً جداً اقتلاع الفساد في أوكرانيا، رغم ثورتي 2004 ـ 2005، و2013 ـ 2014، غير أن قرار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، اجتياح أوكرانيا، بدّل الموازين بحدّة.
سارع المعسكر الغربي، وفي مقدّمته الولايات المتحدة، إلى تقديم الدعم لأوكرانيا، وصولاً إلى التعهّد بالاستمرار بمساندتها حتى الانتصار على روسيا. بدورها، حاولت أوكرانيا تسريع مسار طلب العضوية في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، غير أنها اصطدمت بمانع أساسي: الفساد. كان الأوروبيون خصوصاً واضحين في هذا الإطار: لا عضوية لكييف في بروكسل، ما لم تتبنّ تشريعاتٍ لمحاربة الفساد وتطبّقها.
أيقن زيلينسكي، رغم محاولاته التذّرع بالحرب لتأجيل المواجهة الشاملة مع الفساد نظراً إلى فداحته، إلا أن الإصرار الأوروبي كان أقوى. وخلال وجوده في الوسط تماماً، بين القصف الروسي والحاجة إلى الغرب لدعم الجيش الأوكراني، اختار زيلينسكي مكافحة الفساد. وتباعاً أصدر تشريعات متلاحقة، وصلت إلى حدّ مساواة الفاسد بالخائن لبلاده، أي أن العقوبة في الحالتين، بحدّها الأدنى وفق القانون الأوكراني، تبلغ 15 سنة سجناً.
لاحقاً، تشجّع زيلينسكي بفعل إشادة الغرب بمواجهته الفساد، فباشر باعتقال سياسيين ورجال أعمال وعسكريين وحكّام مناطق ثَبُتَ ضلوعهم بالفساد، وصولاً إلى كولومويسكي بالذات قبل أيام. وجّه الرجل رسائل حازمة بعزمه على تحقيق انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي بفعل هذه الإجراءات. وحين وصلت درجات الفساد إلى قطاعات المبيعات والمنح العسكرية لأوكرانيا، كاد يُطاح وزير الدفاع السابق أوليكسي ريزنيكوف في مطلع العام الحالي، لا لتورّطه بفساد وزارته، بل لعجزه عن المجابهة، فاستقال نائبه فياتشيسلاف شابوفالوف. كان صيت ريزنيكوف حسناً لدى الغرب، بفعل نجاحه في تسويق الحاجات الأوكرانية العسكرية، وصياغته علاقات جيدة مع نظرائه الغربيين في مؤتمراتٍ واجتماعاتٍ عديدة. غير أن الكشف في الشهر الماضي (أغسطس/ آب) عن فضيحة شراء وزارة الدفاع سترات للجيش الأوكراني من شركة تركية في خريف العام الماضي بسعر تجاوز السعر الحقيقي ثلاث مرّات، كان مدخلاً لزيلينسكي لإعادة صياغة الوزارة، لا الانتقام من ريزنيكوف. سيصبح وزير الدفاع السابق سفيراً وفق ما أفاد نوّاب أوكرانيون في كييف.
ضرب زيلينسكي عصفورين بحجر واحد. أظهر للغرب أنه مصمّم على مقاتلة الفساد في بلاده من جهة. ومن جهة ثانية، بتعيينه رستم أوميروف، المنتمي إلى إثنية التتار في شبه جزيرة القرم، كشف عن نيّته جعل استرداد المنطقة من روسيا، التي احتلتها في عام 2014، هدفاً مركزياً لقواته.
تخوض أوكرانيا حربين، إحداهما للتحرير من الروس، والأخرى لتغيير العقلية التي كانت تُدار بها البلاد. وبعد نهاية الحربين، ستكون أوكرانيا معياراً لبلدان عدة من مشارق الأرض إلى مغاربها.