حذار من طعم الغروب
صحيحٌ أنه لم يبق لك في الحديقة شيءٌ يليق بأملٍ منتظر، وصحيحٌ أن أمس جفّت لك شجرة كنت ترى منها تلك الأزهار الجميلة، وصحيحٌ أنك في أي يوم ما كنت تطمع أن يكون لك حتى أي بيت صغير، لولا عيون أمك مع إبرة الخياطة، وصحيحٌ أنك عدتَ من الحج بلا "خرج" ولا حرير، وكنت راضيا عن الرحلة تماما، إلا أن عليك أن تحذّر من طعم الغروب، فهو طعم غير لذيذ حتى لعيون الحمام وهي تصير في أول الظلام وحيدةً تماما وصامتةً مع نفسها بلا حركة، وتقف فوق ترباس باب، كما تفعل حمامة أحببْتها، ثم عرَجت، ثم تعافَت وكبُرت وانتفش جمال ريشها بألوانها التي لم تتوقّعها قط على هذا الجمال، ثم تطاوست في دلال، وصارت مُفرحةً، وتكيد الغروب، ولم تفارق قط بيتك الصغير الذي تركتْه لك أمك، فحذار من طعم الغروب، لأنك ما زلت مكيرا لطعم الأمل الذي لم تره قط، وتشتاقُه، وأنت كما أعرفك من الصابرين دائما على اقتناص الفرص، حتى جاءك الحمام وباض لك تحت سلّم بيتك.
أنا لا أكره زهدك أبدا، بدليل أنني سعدتُ بعد ما اشتريت قبرَك من التربيّ من يومين، وفرحت بتلك الشجرة التي نبتت على أطراف قبر أبيك، وهي نفسها نوع الشجرة بأزهارها التي ذبلت في بيتك، حينما أنزلتها من السطوح كي تحمي بها حمامات من الأذى بجوار فراخها شبه العارية من الريش، وخاصة من قطط الليل والجرابيع.
دائما كنت أخافُ عليك من الغروب، خصوصا وأنت حزين، أما وجيبك يخلو من النعمة، فقد كنت لا أخاف عليك، لا من قطار ولا من غروب ولا من شروق، لأنني أعرفك كالإسفنجة تمتصّ حزنك دائما كل يوم وتضحك، وتقف فوق تلاله بالنسيان الجميل ليلا، أو ترميه كله في البحر مرّة واحدة، وكأنه ما أصابك أصلا ولا صاحبَك عُمرا، ولذا أقول عنك: إنك مخاتل، مخاتل حتى معي أنا الذي عاشرتك من ست وستين سنة.
دائما تتفلّت مني، وأجدك هناك سعيدا، أو حتى تخترع السعادة اختراعا مُدهشا، أو تنسج أملك على نوْل مكسورٍ في غالب الأحوال. ومن الأعاجيب أنك تنسج أوهام أملك ببراعة، وأراك تحت الشمس منتشيا وعاديا جدا، من دون أن تنام فوق كومةٍ من تراب، ومن دون أن تناقش الإسكندر الأكبر فيما ترغبه أو تريده أو تريده روحُك، فأين تداري عني روحك رغم عشرتي الطويلة معك؟
أنا أعرف أن مكرك من النوع الحميد الذي لا يؤذي أحدا، هو مكرٌ في غالبه هروبي، يكتسي بزهدٍ ما لا أعرف مصدره، ولا حتى كيف ورثته أو حصّلته، مكر هروبي أصيل وتأصّل فيك بمرور السنوات، حتى قصدت أخيرا المقابر وحدك، وبنيت قبرَك على الحافّة، ما بين أهلك وغرباء كانوا يحبّون الضحك مع والدك بالقرب من شجرة، لا زرَعها والدك، ولا هم أيضا، ولكن أظلتهم بحنوّها، هل لأنهم كانوا من الضاحكين رغم أساهم، وكذلك أنت؟ ولو ركبت عنادك كما تعوّدت من ست وستين سنة لبنيته بيديك والله، لأنني أعرف عنادك، رغم هروبك الصوري أو المتخيل أو الفعلي أحيانا.
أعرفك من سنوات قديمة من دون أن أعرفك تمام المعرفة، هل لأنني ألهيتُك معي في سراب قديم ما مسكته قط، ولا فارقته قط، أم لأنني كنتُ قاسيا عليك في كل مرّة أدخل فيها تجربة ما؟ ولماذا ظلّ الغروب أنيسك، من دون حتى أن تزجُره يوما، أو تعلن حتى سخطك عليه، حتى بنيتَ قبرك، هل قبرُك هو السبب، أم لأنك جلستَ أخيرا بجوار شجرة، وأدركت أن الحياة يلزمها أيضا بناء ذلك القبر، كي يكون سندك أيضا، مثل تلك الشمس التي تغرُب، ومثل تلك العصافير التي تزقزق في قلب هذه الشجرة قرب الغروب، ومثل تلك القطّة التي تتأمل نعومة آخر اليوم وهي فوق سور مدرستك الإعدادية وتتثاءب في حنان، وكأنها تنتظر شيئا ما هاما، وتظلّ هكذا ساعة حتى يحلّ الليل، وفجأة تنزل إلى حال سبيلها.
ما الذي كنت تجهله وبتّ على ثقةٍ من عدم أهميته، ما الذي كان يشغلك وبتّ غير مهتم به، حتى مشيتَ إلى شرق البحر، فبنيتَ قبرك سعيدا، وكأنك وصلت إلى حافّة الأمل، ذلك الأمل الذي كنت تخافه وتهرُب منه دائما.