حدود مفاوضات النووي
منذ الإعلان عن الاتفاق بين السعودية وإيران برعاية صينية على إعادة تطبيع العلاقات بين البلدين، كان لافتاً أن لا شيء تحرّك على مدار الأشهر الماضية على هذا الصعيد، لكن الأمور تغيّرت في الأيام العشرة الأخيرة، والأمر لم يكن مرتبطاً برغبة البلدين في تنفيذ ما جرى الاتفاق عليه في الصين، بقدر ما هو مرتبط بالرغبة الأميركية في المضي في ما تم التفاهم عليه. وهي رغبة لم تُخفها واشنطن منذ اليوم الأول للإعلان الصيني. اليوم الحسابات الأميركية تغيّرت مع كسر الجليد الذي كان قائماً في المفاوضات النووية مع إيران، والاقتراب من اتفاقٍ مؤقّت، يشمل الإفراج عن بعض الأموال الإيرانية وتبادل السجناء بين البلدين. وقد انعكس هذا على التفاهم الإيراني السعودي الذي كان مقيّداً إلى حد ما سابقاً بالممانعة الأميركية، والتي خفّت حدّتها حالياً، ما أدى إلى التحرك باتجاه إعادة فتح السفارتين في طهران والرياض، فبعد تعيين طهران سفيراً لها في السعودية، ها هو وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان يزور طهران لفتح سفارة بلاده.
الانفراج السعودي الإيراني تؤكّده الأنباء عن قرب التوصل إلى "الاتفاق المحدود" بين واشنطن وطهران. ورغم الرفض الإيراني الدائم لإمكان القبول باتفاقٍ "محدود" أو "مؤقت"، إلا أن معطيات إيرانية وأميركية كثيرة تحتم الوصول إلى اتفاق كهذا حالياً وصعوبة العودة إلى الاتفاق النووي الأساسي الذي انقلبت عليه إدارة دونالد ترامب.
إيران بداية تعيش الوضع الاقتصادي الأسوأ منذ بداية الحصار الأميركي عليها، وهو ما انعكس داخلياً على شكل احتجاجاتٍ اقتصادية واجتماعية أضعفت القبضة الأمنية للنظام على الشارع الإيراني. وفي نظر المسؤولين الإيرانيين، من شأن البحبوحة الاقتصادية أن تعيد الشارع إلى حظيرة النظام، أو تضبطه إلى حين، وهو ما يدفع طهران إلى القبول حالياً باتفاق مؤقّت يضمن لها الاستمرار في تخصيب اليورانيوم عند مستوياتٍ معيّنة، وفي الوقت نفسه، يتيح تدفق الآليات المجمدة إلى خزائن الحكومة الإيرانية، وهو ما يبدو أن طهران في طريقها إليه.
كذلك فإن الليونة الإيرانية حالياً في مسألة الاتفاق المؤقت مرتبطة بالوضع السياسي في الولايات المتحدة، والغموض حول مستقبل الإدارة الديمقراطية برئاسة جو بايدن. يدرك المسؤولون الإيرانيون أن نحو سنة تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية الأميركية، وأن وضع الديمقراطيين، خصوصاً مع إصرار بايدن على الترشّح لولاية ثانية على عكس ما أعلنه في بداية ولايته الأولى، ليس جيّداً، وأن هناك احتمالاً كبيراً لعودة الجمهوريين، ولا سيما إذا نجح ترامب في تخطي العقبات القانونية والقضائية لترشّحه. ولا يخفى على الإيرانيين أن هناك صعوبة كبيرة في التفاوض مع الجمهوريين، ناهيك عن أن أي اتفاق نهائي قد يجري التوصل إليه الآن يمكن أن يُنقلب عليه كما حدث مع سابقه. وبالتالي، تكون الفائدة الإيرانية حالياً باتفاق مؤقت يسمح بتدفق السيولة إلى البلاد، من دون التزامات كثيرة أخرى.
مسألة الانتخابات الأميركية هي أيضاً ما تكبل الإدارة الديمقراطية في مفاوضاتها مع طهران، وتضع حدودا كثيرة لسقف ما يمكن أن تقدّمه إدارة بايدن لإيران. لكنّ هذه الإدارة، وهي مدركة صعوبة وضعها الانتخابي، بحاجة إلى إظهار بعض الإنجازات على صعيد الملف النووي الإيراني بعد ثلاث سنوات من المفاوضات العقيمة. "الاتفاق المحدود"، ورغم أنه أقلّ كثيراً مما كانت واشنطن تسعى إليه في بداية مفاوضاتها مع طهران، إلا أنه يقدّم إدارة بايدن طرفا استطاع "احتواء الخطر الإيراني" بقليل من التنازلات.
ومع أن من غير المؤكّد ما إذا كان هذا "الاتفاق المحدود" سيفيد إدارة بايدن انتخابياً، لكنه سيُظهر الطرفين الأميركي والإيراني فائزيْن، مؤقتاً، بانتظار ما قد تسفر عنه الانتخابات الرئاسية الأميركية.