حبيب حدّاد .. أو سحر الورقة البيضاء
واحدةٌ من مزايا في "العربي الجديد" أن رسمات كاريكاتيرٍ للبناني، الفرنسي الإقامة منذ 1977، حبيب حدّاد (1945)، وهو شيخ طريقةٍ في هذا الفن، تطلّ على صفحاتها. وواحدةٌ من مباهج شحيحةٍ، جدّت أخيرا، أن تحايا مُحبّةً إلى هذا المعلّم أشهَرها في بيروت أصدقاءُ له، وذوّاقة، ورسّامون، ورفاق مسيرة، ومبدعون، في احتفالية إطلاق كتابٍ نادر النوع، ثقيل القيمة، باذخٌ، فيه اجتهادٌ وجمالٌ كثيران، وفنٌّ غزير، فيه سيرة وشهادات ورسوم و..، يليق الفرح به، يأخذ عنوانا فيه إيحاءٌ ظاهر "حبيب حداد .. سحر الورقة البيضاء". وواحدةٌ من بواعث غبطةٍ وفيرةٍ غشيَت صاحب هذه الكلمات أن نسخةً من هذا الكتاب، المُتقن إخراجا وتوضيبا، وصلت إليه، هديةً قادمةً من بيروت. وواحدةٌ من أسباب مغالبة حيرةٍ في الإتيان على ما يمكن تقريظُه في حبيب حدّاد، بمناسبة الكتاب، أنك قد تجد أي قولٍ منك في فنه، وفي مسيرته رسّام كاريكاتير له قامتُه، ربما قيل، مثل إنه صاحب أسلوبٍ خاصّ، إنه ظلّ، في أزيد من أربعين عاما يرسم ويرسم، يسخر وينقُد، يصرّح ويُضمر، مقيما على التعبير عن هموم الإنسان وأشواقه إلى الحرية، يعتنق مناهضة الاستبداد، مؤمنا بالسلام للشعوب وكرامتها، مع فلسطين وشعبها، مع وطنه لبنان ضد السرّاق والمليشيات والمرتهنين، مع أمّته في العراق واليمن وليبيا ومصر والسودان و... وأن تقول إن خطوط حبيب حدّاد قويةٌ في فائض الرهافة فيها، في علوّ الموهبة الفنية التي تدلّ على صاحبها، فإنك لن تزيد في الطنبور وترا. وأن تقول إن كاريكاتير حدّاد يضجّ بأفكارٍ تتدافع فيه، وأن المُرسلات الوطنية والإنسانية والقيمية فيه يأتيها هذا الفنان الحرّيف باشتغالٍ على التكثيف والترميز، وعلى التعبير من قبلُ ومن بعد عن موقفٍ ساخطٍ ناقمٍ غالبا، صادقٍ دائما. .. ولأنك قد تلقى نفسَك في تحدٍّ يبحث عن جديدٍ تقوله (أو تكتُبه على الأصحّ)، يضاف إلى ما استحقّه حبيب حدّاد من عبارات الثناء السخية على جدارته الفنية، والتجدّد الذي واظب عليه في أطوار تجربته الطويلة، فقد تكتفي بالمتعة، وأنت تجولُ في صفحات الكتاب، في النصوص والرسوم التي بالأبيض والأسود والأخرى التي باللون، بين محطّاتٍ وانعطافاتٍ في مسار هذا الفنان، ستلقاك هنا مأخوذا بالبساطة، وهناك مفتونا بالمفارقة، وبين هنا وهناك مسرورا بعميق الرؤية واتساعها .. وبفنٍّ كثير في رسمها.
ساهم 11 كاتبا ورسّام كاريكاتير وصحافيا في شهاداتٍ عن حبيب حدّاد، فنانا وإنسانا (وصديقا). بدت كلماتُهم ورداتِ مَحَبّةٍ لأستاذٍ قديرٍ مجرّب، وهم على إعجابٍ بما رسم وما أعطى. من كثيرٍ أفضوا به، رائقٌ من الكاتب والمسرحي اللبناني، جان رطل، قوله إن ابن مدينته (طرابلس)، حبيب حدّاد، "فنان جاهد وطوّر كل قدراته وبقي يملك حسّ المفاجأة والنكتة والتركيز". ومن جميل القول أيضا ما رآه صديقنا الزميل عماد حجّاج إن أفكار حدّاد في شتّى المواضيع التي يتناولها آتيةٌ من ثقافته العميقة وهمومه الإنسانية، وأن الفكرة تأخذ دورها البارز في رسومه. وهذا قولٌ يشفّ عن فطنة، إذ لا يبدو أن صاحبنا يعطي الإضحاك في كاريكاتيره الأولوية الأقصى، وإنما يعطيها للفكرة، من دون أن يختفي الحسّ الساخر الذي يتجلّى طيفا أو ظلا أو مذاقا تتحسّسه في الرسمة، ومن دون التسامح في الضربة الفنية التي لا تدلّ إلا على حبيب حدّاد وحده. وهنا، ربما جاز الزعم إن الفنان السبعيني، ساحر الورقة البيضاء كما يجوز له هذا اللقب الذي يوحي به الكتاب البديع، هو كاريكاتيرست الفكرة، وقد سمّاه حجّاج "نحّات الفكرة". وفي أشواط مسيرته، منذ غادر عمله بين الخشب في ميناء طرابلس إلى صحيفة الحزب الشيوعي اللبناني "النداء" في 1974، وصولا إلى رسومه في "العربي الجديد" (عن كورونا مثلا، وكان باهرا فيها)، يتبدّى أنه ظلّ ينعطف من حذاقةٍ فنيةٍ إلى أخرى، ولعلّه في سنوات رسمه في صحيفة الحياة استقرّ على ملامحه الأوضح، لمّا ظهر "أستاذ نفسِه ومدرستها"، بحسب تعبيرٍ في مطرحه، صكّه كاتب كلمة دار طش فش التي أصدرت الكتاب وتوزّعه (مع مكتبة أنطوان).
لا تغادر هذه المقالة سطورَها من دون تثمينٍ واجبٍ لمبادرة مدير "طش فش"، معتز الصوّاف، في نشر هذا الكتاب، بإشراف كميل حوا الذي شابَهَ، في المقدّمة، تجربة حبيب حدّاد الممتدّة بفيلم استرجاعي طويلٍ لحقبةٍ عربيةٍ كاملة .. وليس في الوسع أن يزيد واحدُنا على قولٍ كهذا، وعلى ما نطق به كتابٌ باهظ الأناقة، اجتمع فيه كثيرٌ من حبيب حدّاد متّعه الله بالصحّة.