حاتم علي مدرّساً للتاريخ
"موت مدرس التاريخ العجوز" عنوان قصة حاتم علي من مجموعته التي حملت عنوان القصة، فهي درّة قصصها، قرأتُ القصة في "الأسبوع الأدبي" في صفحة أدب الشباب، وأذكر أنَّ الأديب شوقي بغدادي احتفى بها وأكرم وفادها.
وسنجد أثر هذه القصة في عزائم حاتم اللاحقة، فكأنه استجاب للراوي، والراوي في القصة صحافي عجوز، أُخذ للعلاج، وفي المشفى وقع على قضيةٍ كبيرةٍ هي قضية حياته، فقد وجد مدرّس تاريخ احتالت عليه الحكومة، واستدرجته، فدعته إلى الاحتفال به وتكريمه، لكنها غدرت به وسرقت ذاكرته.
يخاطب الصحافي أبو نبيل ابنه بخطابٍ غلب عليه التأنق في اختيار الكلمات والتعابير الأدبية التي تعيق نمو القصة، أو أنها لا تعين على تدفقها، يقول الراوي إنه وجد مدرسًا للتاريخ بأقسامه: قديم وأوسط وحديث، ويصفه بأنه رجلٌ لا يعرف شيئًا سوى التاريخ، ويعاني من آلام مبرِّحة ومجهولة، وأنَّ الحكومة رأت أن تجعل مرضه الذي لا يسمّيه الراوي اكتشافًا طبيًا وعلميًا للبشرية. ويستعين الراوي بعباراتٍ شائعةٍ مثل وصفه شفتي المدرس المريض بأنهما مثل جناحي عصفور بردان، وبعض العبارات الشعرية، مثل الإكثار من ذكر سكون الليل والمطر للإيحاء بمواكبة الطبيعة للحدث الكبير، ويرتكب حادثًا سرديًا في القصة، ليس هذا محل الإشارة إليه، ثم إنَّ الصحافي يستفيق ليجد أنَّ مدير المشفى قد أُقيل من عمله، وأنَّ البّحاثين قد شُردوا واختفوا، ثم يقرأ في عناوين الصحف شكرًا يُسديه المدرّس المريض للأطباء على إنقاذ حياته، بينما حاله تزداد سوءًا، ثم يختفي مدرّس التاريخ في ظروف غامضة.
يخرج الصحافي إلى قرية المدرِّس، ويلتقي بأهله وطلابه، ويحاول إبلاغ الوصية للناس، لكنَّ شجاعته تخذله، فالقضية كبيرة، ثم يترك سرِّه لابنه في الرسالة، حتى لا يعيش مخدوعًا، ويوصيه أن يثأر لنفسه ويمكنه أن يحاول.
تتصف فكرة القصة بالقوة والصلابة، وهناك قصصٌ مشابهةٌ لها في الكتابة وفي السينما، يبني الكاتب قصته بأسلوب الرسائل الشهير، وفيها غموضٌ يحثُّ على التشويق والتحفيز، مردّه أمران، مخاتلة الرقيب وغموض المجاز الأدبي اللازم. وكان الكاتب عند كتابتها في أوائل العشرينيات من عمره، وكان يمكن لقصته أن تكون أجود وأفحل، ثم وجد نفسه إلى التمثيل أقرب من فن القصّ ثم في الإخراج والإنتاج، واستقرَّ فيهما، وقد أخلص لرسالة مدرس التاريخ، فانكبَّ على التاريخ، فكانت بدايته في السيرة الشعبية مع مسلسل الزير سالم. ثم أخرج رائعته مسلسل صلاح الدين الأيوبي، ثم "صقر قريش"، ثم "ربيع قرطبة".
احتار النظام السوري البعثي التقدّمي مع بدايات التلفزيون في اختيار القصص المناسبة للتمثيل، فظهرت مسلسلات بني هلال، وبعض القصص "التقدّمية" أو الروسية مثل "الجريمة والعقاب". استشعر المخرجون والمنتجون المحاذير، فابتدعوا مسلسلات الفانتازيا التاريخية، وشخصيات مثل العنقاء والشمطاء وابن الرومية.
لدى العرب كل التاريخ، حتى أن مياه دجلة أزرقّت من مؤلفاتهم في العلم والأدب، واسودّت منها سماء الأندلس حرقًا للنفائس العلمية، بل إنَّ العرب متّهمون بأنهم مرضى بالتاريخ. وما لبث ابن الرومية بعدما استتب له الأمر في دمشق، بعد أن استعبد شعبها ومنع عنهم النار والنور، وعرف أنَّ المتفرجين هم إنما عائلات في المنازل، ولن تثور أسرةٌ تأكل أو تضطجع على الأرائك، ولا خوف من التاريخ على الأسرى والأُسر، وأنَّ صلاح الدين الأيوبي قد يختزل، في النهاية، إلى ممثلٍ يؤدّي دور مجرم في مسلسل آخر، وأنَّ خالد بن الوليد هو باسم ياخور وكليهما من المقرّبين، وإن لم يكونا فلن يعلنا ضده معارك مثل حطين واليرموك. بل إنّ ابن الروميّة جاهر بالمفاضلة بين الشام ومكة والمدينة في خطاب شهير سنة 2014، وزعم أنه لولا الشام لما كان بنو أمية، ونسي ابن الرومية أنَّ فردا واحدا وحيدا من بني أمية فرَّ إلى إسبانيا فبنى "زمان الوصل" من غير وساطةٍ من سليم دعبول، او معونة من جورج قرداحي الذي كان يعطي المتسابق أربعة أجوبة.
من قصته الأولى، أدرك أبو عمرو أنّه لا يمكن الوثوب إلى المستقبل، من غير أن يسند ظهره إلى التاريخ. وأنّ الأقدمين كانوا يحنّطون فراعنتهم في صخر المومياء، وأنَّ فراعنتنا حنّطوا شعوبهم في قفص الحاضر.