جولة في ربوع العصفورية
كان صديقي محمد يقوم بجولة في عالم "السوشيال ميديا". شعر أنه قد شُحن بطاقة سلبية أوصلته إلى حافّة الجنون، فما كان منه إلا أن أغلق "اللابتوب"، وقال وهو يزفر: عصفورية، وقام، ومشى إلى الصالة، حيث الأريكةُ المكسورةُ ساقُها، المسنودةُ على حجر في غرفة الجلوس.
استلقى على ظهره، فتح عينيه على مداهما، وراح يتأمل في السقف على طريقة الشاعر الداغستاني، رسول حمزاتوف، عندما كان يهيئ نفسه لكتابة نص جديد. وفجأة قفز نازلاً على قدميه، وعاد إلى "اللابتوب"، فتح صفحته الفيسبوكية، وكتب: بماذا تفسّر أن يكتب مثقفٌ معروف على صفحته أن إيران تحتلّ خمس دول عربية؟ هل تعرف أنت، أصلاً، كيف يكون الاحتلال؟ فرنسا مثلاً، في مثل هذه الأيام من سنة 1920، احتلت سورية، وبقيت فيها 26 سنة، واحتلت الجزائر ولبنان وكانت تفرض الحماية على تونس. إيطاليا احتلت ليبيا. بريطانيا احتلت فلسطين والعراق ومصر وشرقي الأردن. نعم؛ لإيران مطامع توسعية دنيئة، وتصرف المليارات في تمويل حزب الله، وترسل مليشيات إرهابية إلى سورية والعراق ولبنان.. ولكن أن تقول إنها "تحتل" خمس دول عربية؟ ثخينة.
لم يحتمل محمد سيل التعليقات التي تدفقت عليه، تتهمه بأنه عميل، وفارسي ومجوسي .. ولكيلا يطيل السيرة، حذف محمد المنشور، وعاد إلى الأريكة التي لم تحتمل ثقله هذه المرّة، ففكحَ الحجرُ تحت ساقها وهوت به على الأرض. فكّر أن ولعه بعالم "السوشيال ميديا" صار يشبه حال مجنون جيء به إلى العصفورية، أول مرة، وهو يصرخ ويرفس ويعض ويخرمش، ولكنه، مع مرور الزمن، أدمن أجواءها، وحتى سحنته أصبحت قريبة من سحنة المجانين. فتح "اللابتوب"، وعاد إلى عصفوريته، ليرى كيف التقت مذيعة أردنية بطفلها المخطوف. كاد أن يبكي تضامناً مع المرأة والطفل، وانطلق لسانه، لا يدري كيف ولا لماذا، يغني "ابني حبيبي، نور عيني، بيضربوا فيك المتل، كل حبايبي بيهنوني، طبعاً ما أنا أم البطل؟".. عندما وصل إلى جملة أنا أم البطل، رفع رأسه إلى الأعلى، وانفلت بضحك هستيري، قائلاً لنفسه إن شريفة فاضل غنّت أم البطل لابن شاب استشهد في حرب أكتوبر 1973. وأما هذا الطفل المسكين فقد خطفته عصابة تعمل بين تركيا ومناطق الجولاني، وإنه لمن الغباء، يا سيد محمد، أن تسأل لماذا لم يغنّ أحدٌ من مطربينا الاشاوس لشهداء حرب يونيو 1967، مع أنهم أكثر من هؤلاء عدداً، وأطيب قلباً... طبعاً، لم يغنّوا لهم بسبب الهزيمة، وماذا سيقولون إذا غنوا؟ هل يغنون: إياكْ تمشي سَحْوَلة، انسحبْ بسرعة وركيدْ، أولْ الرقص يا بْني حَنْجَلة، فانجُ سعدٌ هلك سعيدْ؟ فكّر محمد بهذا كله قبل أن يكتشف أن موضوع العصابة التي تخطف الأولاد كله كذب بكذب، وراح أنصار الجولاني يردحون لمن روّج تلك الإشاعة المغرضة، حتى التبس الأمر عليه، وخيّل إليه أن هذه المنطقة خالية من العصابات والسرقات والجرائم!
حذف المنشور الذي كتبه عن عصابات الخطف. ذهب إلى محرّك البحث غوغل، وراح يبحث عن "العصفورية"، وجد أنها، بحسب صحيفة النهار، 13 سبتمبر/ أيلول 2018، منطقة ذات أشجار عالية، عذبة الهواء، تزقزق فيها العصافير، تقع بالقرب من بلدة الحازمية بلبنان، اشتهرت بسبب إقامة مشفى للأمراض النفسية والعقلية فيها سنة 1890، أغلق في سنة 1972.. ولكن اسم العصفورية، بدلالته المتعلقة بالجنون، ما يزال ساري المفعول في لبنان، بدليل الأغنية الكوميدية "ع العصفورية" التي كتبها ولحنها فيلمون وهبي للشحرورة صباح، وفيها أنها جنت، بسبب الحب والهيام طبعاً، وعشيقها أوصلها بيده إلى العصفورية.. وفي سنة 2006، أصدر الروائي السعودي غازي القصيبي رواية بعنوان عصفورية، عن دار الساقي بلندن.
(في سنة 2009، أصدرتُ، أنا محسوبكم، كاتب هذه الحكاية، مجموعة قصصية بالعنوان نفسه).