جمال خاشقجي أيضاً وأيضاً
لا يجوز أن نملّ من استعاداتٍ دائمةٍ لواقعة قتل جمال خاشقجي. ولا يليق أن يتسرّب إلي أيٍّ منا، نحن العاملين في الإعلام والثقافة والتفكير والسياسة والشأن العام، أيُّ ضجر من الحديث عن الجريمة البالغة الشذوذ في فداحتها. والمؤكّد أن السلطة التي دبّرت خداع زميلنا المغدور، ليدخل القنصلية في إسطنبول، ولا يخرج منها، ورتّبت مع أعوانٍ فيها تصفيته هناك، تجهد، من أجل إغلاق القضية ورميها إلى النسيان، و"فضّ" هذه السيرة. وها هم مقيمون في حظائر الحاكمين المستبدّين العرب يأنفون من أي حديثٍ متجدّدٍ في أن القصاص والعدالة لم يُنجَزا بعد في قتل دولةٍ عربيةٍ مثقفا من مواطنيها. وإلى هذا الأمر، وتفاصيل أخرى غزيرة، ثمّة جمال خاشقجي نفسُه، طيبٌ كثيرا أن نتعرّف عليه، بل ضروريٌّ، لعلنا نقع على الباعث الذي جعل الحاكم النافذ في بلده، العربية السعودية، يفعل به ما فعل. .. ما الذي "اقترفه" بالضبط، فيما هو كاتبٌ فحسب، معلقٌ وصاحب رأي، لم يعلن انشقاقا على النظام، ولا دعا إلى ثورة، ولا تطاوَل بكلام مسيء على أحد؟ أيّ "محرّمٍ" اقترب منه، فرأى ذلك الحاكم، وبطانة حواليه، عقابه، بإزهاق روحه بالفظاعة التي نعرف؟
الراجح أن هذا السؤال دفع المخرج الأميركي، ريك رولي، إلى إنجاز فيلمه الوثائقي "مملكة الصمت" الذي تعرضه "شو تايم" حاليا، ويقترب موعد عرضه دوليا، والذي يعتني بخاشقجي، منذ ثمانينيات نشاطه صحافيا في أفغانستان، بين المجاهدين ضد السوفيات، وقريبا من أسامة بن لادن، وانتهاء بظهيرة الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول 2018، لمّا أماتوه في القنصلية. اسم الفيلم مستهلك، لا جدّة فيه، يستعير وصفا ذائعا عن العربية السعودية. ولكنه يفعل هذا، ليرمي مرسلتَه إلى مشاهديه، وموجزها أن شخصا، اسمُه جمال خاشقجي، كان يعمل في أوساط السلطة والنظام في العربية السعودية، نطق بما يكسر الصمت الذي يُراد له أن يكون مُحكَما ودائما، فقتلوه. ولكن الفيلم (ساعة و37 دقيقة) يشغلُه شأن خاشقجي في غضون مبحثه الأساسي في العلاقات الأميركية السعودية. استرسل فيها المخرج الحائز على جائزة إيمي، فلم نر فقط رقص جورج بوش الابن بالسيوف في المملكة، وإنما أيضا رؤساء أميركيين قبله وبعده، ومعهم ملوكٌ وأمراء تعاقبوا، حتى إذا صار محمد بن سلمان ولي العهد، استجدّ ما هو مختلف، سيما وأن الذي بات في البيت الأبيض هو دونالد ترامب، وهذا ليس كما سابقيه، وأن انقلابا عسكريا على الثورة جرى في مصر. هنا، انعطف جمال خاشقجي إلى طوْر آخر يبدو، ظاهريا، غير متسقٍ مع ما كان عليه، ولكنه قبل هذا أبهجته الثورات في مصر وتونس واليمن وسورية، ثم استطاب الكلام عن إصلاحٍ ربما يحدُث في بلده، ما يعني أنه صار في موضع آخر. وبعد قتل محاولةٍ إعلاميةٍ وعدت بجديد، فضائية العرب التي تولّى إدارتَها وتأسيسها، بدفعٍ وتمويلٍ من الوليد بن طلال، القتل الذي أجهز على المحطة، ست ساعات من انطلاقة بثّها من البحرين، وبعد أن صار ولي العهد يحوز كل مصادر القوة في المملكة، الأمن والدفاع والإعلام والمال و..، "طفش" جمال إلى واشنطن، لا ليصير جيفارا فيها، وإنما ليتكلم، وليكتُب في "واشنطن بوست"، مثلا، ما يراه صلاحا لبلده..
طاف "مملكة الصمت" على هذا كله، وجاء على انتصار جمال خاشقجي للحروب الأميركية في العراق، وعلى دفوعاته غير مرّة عن الحكم في السعودية، وعلى عمله مستشارا للسفير، تركي الفيصل، في لندن، وعلى غير محطة من مساره صحافيا ومثقفا وصاحب رأي. استضاف أصدقاءَ وزملاءَ وأصحابا له، وكذا مسؤولين ومحللين أميركيين. جاء على بعض الشخصي في حياته، وربما كان من الأنسب أن يخفّف من الإسهاب في قصة أميركا والسعودية، ويزيد من جرعة الذاتي والإنساني في سيرة خاشقجي، فلم يكن كافيا، ربما، مرورٌ قليلٌ على شقته في واشنطن، ووحشته هناك. وقد أجاد الفيلم في المشهديات التي انتقاها، بتصويرٍ حاذقٍ في أفغانستان وإسطنبول والسعودية وغيرها، بل وأيضا في الموسيقى التصويرية التي رافقت عصافيرَ تطير، وصاحبت النظر إلى فضاءات مفتوحة، وشعورا بسكينةٍ هنا وهناك، بعد مشاهد مروّعة في ميدان رابعة العدوية في القاهرة، مثلا، غير أن الفيلم بدا، في بعض انتقاءاته في العربية السعودية، خصوصا، يقع في منزع استشراقي.. ولكن الأهم من هذا (وغيره)، أنه في تتابعه المتماسك، وبعضُ مقاطعه على نباهةٍ ظاهرةٍ، يبقى فيلما ضروريا، كما غيرُه من أفلامٍ يحسُن أن لا يتوقف إنجازَها، عن جريمة القنصلية وضحيتها، فالإيحاء الأهم فيه أن جمال خاشقجي ليس ملفا مفتوحا وحسب، وإنما سيرةٌ التقت فيها مفارقات السياسة والصحافة في مملكةٍ تؤثر الصمت، سيرةٌ نطق صاحبها بما خدش ذلك الصمت ..