18 نوفمبر 2024
جريمة وزوابع تركية
متعبٌ إجهاد الذهن في تقليب الأوجه العديدة لحادث التفجير الإرهابي المزدوج في أنقرة، أول من أمس، وكذا الانصراف إلى تخمين الأرجح احتمالاً في المسؤولية عن تخطيطه وتنفيذه، فالأحاجي في الواقعة، غير المسبوقة الطراز في تركيا، كثيرة، والتعقيد في تداخلها مع غير موضوع وشأن يورّط من يخوض فيه في متاهةٍ عويصة. ولكن، ثمّة خيار بديل، وييسّر إراحة الذهن، هو "تلبيس" تنظيم داعش ارتكاب الجريمة التي قضى فيها أكثر من 95 وأصيب أزيد من مئتين، صدوراً عن تحليلٍ ميكانيكي، واستناداً إلى النظر، الصحيح على الأغلب، إلى التنظيم الإرهابي المذكور، باعتباره يحوز أرطالاً غزيرة من غياب المنطق في جرائمه. ففي الوسع رمي الجائحة التركية الكردية المستجدّة عليه، وهو الذي "لبس" المسؤولية عن تفجير يوليو/تموز الماضي في سوروج، قرب الحدود السورية، وراح فيه 33 تركياً، أغلبهم أكراد.
لماذا لا يكون "داعش" من اقترف الجريمة المهولة، ومن الميسور العثور على ما قد تعد "بصمات" له فيها، فيما البحث عن متهمين آخرين ليس مضمون النتائج المؤكدة، لا سيما وأن الزوابع أمام تركيا عديدة، في راهنها الماثل قدّام الجميع، في الداخل والخارج، في الإقليم والجوار، وكذا في مستجدات عملية السلام مع الأكراد وفي تفاصيل الخرائط السياسية في البلاد، وانتخاباتها المربكة التي انتظمت قبل شهور، وتتلوها أخرى تلغيها بعد أسابيع. وإذا كان في الوسع تفكيك هذه الزوابع، والتملي فيها واحدةً واحدةً، فإن حسم أي الوجهات يريدها، بالضبط، مرتكبو تفجيرات أنقرة وسوروج، والريحانية قبلهما، لا يبدو سهلاً.
هو التخريب وحده الغرض الأكثر وضوحاً في واقعة أنقرة، وهو يستهدف تركيا، في لحظةٍ تتقاطع فيها سخونة انتخاباتٍ مرتقبةٍ وحرجة، وعملية سلام مع حزب العمال الكردستاني متذبذبة، مقادير الريبة عند طرفيها غير قليلة. هذا التخريب هو الذي أُريد في استهداف ناشطين، من نقابات وأحزاب يسارية ومنظمات غير حكومية، تجمعوا من كل ولايات البلاد، في تظاهرةٍ تغني للسلام في أجواء فرحة وراقصة. ليس مأذوناً من شياطين الإرهاب الأعمى أن ينتصر هذا المنطق المدني، والذي يتوحد عليه ملايين الأتراك، وكذا غالبية الأكراد الذين كان أولئك المبتهجون منهم، فصاروا ضحايا وجرحى، مع من صودف وجوده في ساحة في وسط العاصمة أنقرة. اختار هؤلاء شعاراً مضاداً لكل أمواج العبث، "نريد السلام الآن"، لكنّ ذوي النزوع المقيت إلى دوام الاقتتال لا يريحهم هذا، وهم في تركيا وخارجها، فبادروا إلى الفعلة الشنيعة التي يبدو بالغ الوجاهة سؤال معلق تركي بشأنها عمّا إذا كانت البداية. ليس هؤلاء أشباحاً، لكنهم غير منظورين تماماً، كما لو أنهم خفافيش في الوسع استخدامها أو استئجارها أو شراؤها، حسب الحاجة وعند اللزوم.
أطلق زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون، عبدالله أوجلان، في مارس/آذار الماضي، نداءه إلى قيادات حزبه وعناصره إلى "مغادرة السلاح إلى النضال الديمقراطي"، غير أن وقائع لاحقة دلت على أن الاهتداء بهذا النداء ليس ميسوراً بلا عقبات. وهذا رئيس الحكومة التركية، داود أوغلو، يشتبه، بعد ساعات من تفجيري أول من أمس، بهذا الحزب متورّطاً، وكأنه يودِع نقاطاً بشكل مسبق في مرمى شريك عملية السلام المقلق. أما الخصم الأهم لأوغلو وحزبه (العدالة والتنمية) حزب الشعوب الديمقراطي، ذو الأغلبية الكردية، فلم يجد فاعلون فيه حرجاً في اتهام الحكومة بالمسؤولية عن الجريمة، بتسهيل وقوعها، على ما قالوا.
هو موسم مفتوح للكلام في تركيا، وغواياته عديدة، فثمّة سورية و"داعش" والمشاركة الروسية العسكرية في القتال في سورية، وثمّة حملة دعائية بالغة الحساسية لاستحقاق الانتخابات المبكرة المقررة في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وتصميم "العدالة والتنمية"، وزعيمه الرئيس رجب طيب أردوغان، على بلوغ المرتبة الأولى فيها، والأغلبية المريحة إن أمكن، قوي ومعلن. هل ثمّة من أراد أن يأخذ الحزبَ إلى أولوياتٍ ومشاغل أخرى، وإنْ بكلفة دامية ثقيلة، ففعل ما فعل في الناشطين الأتراك الأكراد الفرحين، في جريمة التفجير المزدوج، أم إن "داعش" أرادت شيئاً ما؟