جريمة لا تحتاج تحقيقاً
لم يكن تشييع الشهيدة شيرين أبو عاقلة في القدس المحتلة أول من أمس مجرد مشهد وحدة فلسطينية، أو ساهم لساعات في تحرير المدينة من محتليها. ومع أهمية الأمرين، إلا أن ما كشفه التشييع عن الوحشية الإسرائيلية أمام مرأى العالم ومسمعه كان لافتاً، فهذا الكيان الغاصب الذي يقدّم نفسه أنه "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" أصيب بحالة من الجنون أمام مشهد المشيعين في القدس، فلم يكتف هذا الاحتلال باغتيال شيرين، ومحاولة مداراة فعلته على الأقل بالسماح بإقامة جنازة طبيعية، بل عمد إلى إفلات العنان لأفراد شرطته للاعتداء على الفلسطينيين المشاركين ومحاولة إسقاط نعش الفقيدة، والذي حاول المشاركون حمايته من السقوط، ونجحوا في ذلك.
الأهم في هذا الأمر أن هذا المشهد كان يبث على الهواء مباشرة، فشيرين التي حاولت حيّة فضح ممارسات الاحتلال بحق الفلسطينيين أتمت مهمتها على أكمل وجه بعد اغتيالها، فكان مشهد القمع غير مسبوق، خصوصاً بالنسبة إلى طبيعة الحدث، والذي لم يكن أكثر من تكريم لشهيدة صحافية سقطت في أثناء تأدية عملها، فلم يكن هذا الإجرام في مواجهة تظاهرة أو احتجاج، وهو ما كان الاحتلال يعمد دائما إلى التذرّع به، على اعتبار أن المحتجّين كانوا يشكّلون تهديداً، فأي تهديدٍ كان في التشييع باستثناء العلم الفلسطيني الذي ترى فيه إسرائيل خطراً وجودياً على سيطرتها على القدس؟
ورغم هذا الكشف الفاضح، والذي لا يحتاج إلى تأويل بالمطلق، إلا أن بعض الإعلام الغربي استمرّ في التعامي عن الممارسات الإسرائيلية، وعمد إلى توصيفاتٍ تبعد الشبهات عن الاحتلال، على غرار "المناوشات" و"الفوضى"، وهما تعبيران استُخدما في مؤسساتٍ صحافيةٍ من المفترض أنها عريقة، وتمثّل "مدارس صحافية في الموضوعية". لكن هذه الموضوعية تقف عند حدود إسرائيل، وتحلّ محلها التعابير المواربة التي تتجنّب إدانة الاحتلال بشكل كامل، فلا بد أن يكون هناك مسؤول آخر غير إسرائيل. فإذا كانت مخطئة فلا يمكن أن تتحمّل المسؤولية الكاملة عن الجريمة، ولا بد أن يكون هناك مسبب لها، فالقناعة الغربية الأساسية كانت، ولا تزال، أن إسرائيل ليست "مجرمة بطبيعتها".
من هنا، يمكن الانتقال إلى مسألة التحقيق في جريمة اغتيال شيرين أبو عاقلة، إسرائيلياً كان أم دولياً، ومن الممكن توقع النتائج التي يمكن أن تخرج عنه. ومع أن الإسرائيليين بدأوا فعلياً في التلميح إلى الاعتراف بأن جندياً إسرائيلياً قد يكون مسؤولاً عن الجريمة، إلا أن هذا الاعتراف ليس كاملاً بعد، ولن يكون، فدولة الاحتلال ستعمل على تمييع التحقيق وإطالته. وفي المحصلة، ستخرج بتحميل أحد الجنود المسؤولية مع الإشارة إلى أن هذا الأخير "أحس بالخطر فأطلق النار". مثل هذه الخلاصات ليست جديدة على قوات الاحتلال، فتحقيقاتٌ كثيرة انتهت إلى النتيجة ذاتها، وليست قضية شيرين أبو عاقلة استثناء، خصوصا مع مضي الوقت. وسبق لشيرين نفسها أن قالت، في أحد تسجيلاتٍ مصوّرةٍ انتشرت بعد استشهادها، وفي أثناء حديثها عن المخاطر التي يمكن أن تواجهها خلال عملها، إنها لا تشعر بأمان رغم ما ترتديه من دروع أو من إشارات إلى أنها صحافية. وأشارت إلى أنه رغم ذلك كله فإن الجندي يمكن أن يطلق النار، ويتذرّع بأنه "لم يشعر بالأمان، أو أن مسلحين كانوا بالقرب من الصحافيين".
لن يكون الأمر مختلفاً في التحقيق الدولي أيضاً، خصوصاً بعد أن يكون الاسترشاد الأساسي فيه مستنداً إلى التحقيق الإسرائيلي. أما شهادات عشرات الشهود الفلسطينيين، وأي تحقيق فلسطيني سيجري، فسيكون هامشياً، وبالنهاية سنخرج بالنتيجة نفسها مع إدانة للاحتلال، من دون نسيان "المسلحين" الذين كانوا السبب في اقتحام جنين.
هذا التصوّر لمسار التحقيقات، بغض النظر عن شكله، ليس اعتباطياً، بل يستند إلى جرائم كثيرة ارتكبتها إسرائيل خلال السنوات الماضية، منها "سفينة مافي مرمرة التركية" واغتيال صلاح شحادة وإحراق عائلة الدوابشة، والتي انتهت كلها إلى تحميل مسؤوليةٍ فرديةٍ لهذا الجندي أو ذاك الضابط، ونفي اعتبار أن هذه الممارسات هي نهج لدولة مجرمة. لكن بغض النظر عن التحقيقات، وما ستؤول إليه، كان مشهد التشييع كفيلاً بأن يمثّل نتيجة واضحة لأي تحقيق، ويكرّس إسرائيل "دولة مجرمة"، شاء من شاء وأبى من أبى.