جريرة ناشر عربي
تعلّقت حلقة الأربعاء الماضي من برنامج "قراءة ثانية" (تقديم محمد اليحيائي) في تلفزيون العربي بما سمّتها "العلاقة الملتبسة" بين العرب والنازية، فتداولت في تلك العلاقة التي جمعت الفلسطينيين، وخصوصاً مفتي القدس الحاج أمين الحسيني، ومعه عرب ومسلمون كثيرون، بألمانيا في حقبتها النازية. وقد أجاد الضيفان المشاركان، وهما أستاذان جامعيان مختصّان، عمر رياض في بلجيكا والمهدي ساجد في ألمانيا، في عرض مقاربةٍ لتلك العلاقة في سياقاتها ولحظتها ورهاناتها، مع التأشير إلى دوافع وطنية كانت لدى المفتي الحسيني (وغيره) من أجل القضايا العربية والإسلامية. ومعلومٌ أنّ ثمّة تلويناتٍ كثيرةً تُرمى بها تلك الصلات العربية النازية، كما أنّ توظيفاً صهيونياً دعائياً نشطاً لها، يغيّب حقائق ويبالغ في سردياتٍ موهومةٍ أو نقولاتٍ من أرشيفاتٍ تحتاج إلى فحصٍ تاريخي وتحليلي ومقارن قبل التسليم بصدقية مرويّاتها.
لم يكن في وسع حلقة تلفزيونية الإحاطة بكلّ تلك "الالتباسات"، إلّا أنّ ما بسطه الضيفان فيها أفاد في جلاء ما أمكن. وهي تتيح لصاحب هذه الكلمات الإتيان، في عُجالته هذه، على واحدٍ من أهم الكتب التي صدرت مترجمةً إلى العربية في العام المنصرف (2021) "في سبيل الله والفوهرر .. النازيون والإسلام في الحرب العالمية الثانية" للمؤرّخ الألماني، الإيراني الأصل، ديفيد معتدل، ونقله إلى العربية محمد صلاح علي (مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، 2021)، وكان قد صدر بالإنكليزية في 2014 عن منشورات جامعة هارفارد (تُرجم إلى ثماني لغات)، وهو في أصله أطروحة دكتوراة في جامعة كامبردج. وأول ما يلفت فيه الجهد البحثي الهائل، فقد تقصّى الكاتب معلوماته من أراشيف ووثائق ومحفوظات وكتبٍ ومذكّراتٍ ومراسلاتٍ عديدة. ولذلك، ليس يسيراً على معلّقٍ متعجّلٍ أن يتصدّى لما جاء به الكتاب، لحاجة أمرٍ كهذا إلى جهدٍ كبير في التنقيب والفحص. وهذه صفحاتُه (بالعربية) تبلغ 670، منها 250 صفحة للهوامش والحواشي والمراجع والكشّاف (!).
الكتاب معنيٌّ، أساساً، بمنظور ألمانيا النازية إلى الإسلام والمسلمين، وطرائق استخداماتها لهما في صراعاتها وتحالفاتها وحروبها، ولا يكترث إلّا في حدود، بالذي كان يعني المسلمين من هذه العلاقة مع ألمانيا. ولذلك كان اختيار المؤلف عنوان كتابه بالإنكليزية دقيقاً "Islam and Nazi Germany’s War"، فيما جاء العنوان الرئيسي له في الطبعة العربية "في سبيل الله والفوهرر .." غير دقيق، مضللاً في تسميةٍ أصحّ، تجارياً في توصيفٍ أصوب، سيئاً في نعتٍ أنسب. ذلك أنّ قارئ الكتاب لا يخلص تماماً إلى أنّ العرب والمسلمين الذين أقاموا صلات مع ألمانيا النازية فعلوا هذا من أجل هتلر، ومن أجل ألمانيا، ولا عمالة، وإنما وسيلة لتحصيل مصالح عربية وإسلامية، في مناهضة دول كانت تستعمر أوطانهم، وإذا كانوا قد أخفقوا، أو أخطأوا في حساباتهم، فإنّ هذا الحكم (السهل) لا يسوق إلى ما أراده الناشر (أو المترجم؟) العربي أن ينطبع في أفهام القرّاء العرب ومداركهم. وإذ يفيد الناشر (مدارات للأبحاث والنشر) بأنّ التعديل في العنوان تم بالاتفاق مع الناشر (الأميركي) والمؤلّف، فإنّه لم يكن في حاجةٍ إلى هذه "التجارية" النفعية، المؤذية بالضرورة، وكان الاكتفاء بالمسمّى الأصلي للكتاب سيؤكّد الإخلاص لفكرته.
والبادي أنّ ثمة تحيزاً لدى الناشر عندما وضع على الغلاف صورة أمين الحسيني يحيّي مسلمين بوسنيين مجنّدين في زيارته معسكراً لهم في مارس/ آذار 1943، الأمر الذي لم يفعله ناشر الطبعة الأصل باللغة الإنكليزية (فعل هذا الناشر الفرنسي، وهذا شأنه، وإنْ كانت الصورة المستخدمة أقل إيحاء). ووجه الغرابة هنا أنّ الناشر يوضح، في مقدمته، إنّ الكتاب هو "أشمل تقصٍّ لعلاقة ألمانيا النازية بعالم الإسلام والمسلمين، فهو بلا جدال، أوسع من جميع الكتب والنشر التقليدية التي ركّزت على علاقة أمين الحسيني، مفتي القدس، بالنازي"، غير أنّ الصورة على غلاف الطبعة العربية تأخذك إلى التركيز على هذه العلاقة. وإذا كان من نقاشٍ لازم، علمي، لحضور الحسيني في هذا الكتاب الشديد الأهمية، سيما في ما يتعلق ببعض التوصيفات وبالنبرة (هل هي الترجمة؟)، من الضروري الانتباه إلى شعور المفتي بزعامته الإسلامية في زمنه، ما جعله يجد في نفسه مسؤوليةً في تسليح المسلمين البوسنيين الذين تعرّضوا لحروب ومذابح في أوائل الأربعينيات، قضى منهم فيها نحو مائتي ألف (يورد الكتاب تفاصيل)، فأدّى، بتسهيلاتٍ ودعمٍ من النازي الألماني، زيارته لهم، وحدّثهم أيضاً عن فلسطين، الأمر الذي لا تنطق به الصورة المتكرّرة الاستخدام في الدعائيات الصهيونية ..
شكراً "قراءة ثانية"، أتاح التنبيه إلى جريرة ناشر عربي.