جردة متشائلة لآخر السنة

04 يناير 2024
+ الخط -

هل تُحسَب أعمار الأوطان بعدد السنوات والتهامها سنة وراء سنة، أم بمقاييس أخرى ما زالت غامضة، أم تُحسب أعمار الأوطان بعدد الأغاني الوطنية، والكباري (الجسور)، والمسلسلات الرمضانية، وحفلات المهرجانات، والفساتين التي طارت بطاناتها والأسلحة التي تم التعاقد على شرائها، رغم الفقر المدقع والديون التي تراكمت حتى تناطحت مع جبل المقطّم، أم تُحسب أعمار الأوطان بعدد المستشفيات التي تحفظ إنسانية المرء في أيام عجزه، أم تُحسَب بجودة التعليم في الفصول الدراسية، وحصول كل امرئٍ على عملٍ يتناسب مع قدراته، وأمنياته بشفافية، وفقا لملكاته، لا وفقا لعدد النجوم فوق كتفيه، من دون أن يمتلك الشخصُ طائرةً خاصة أو سيّارة بالملايين، تكيد الفقراء على مواقع التواصل التي تساعد على هدم الأوطان وإفساد أخلاقيات الناس، كما قالوا وأقسموا مع "أبو صدّام" قبل وبعد جنون مزارع (ومخازن) البصل الذي فقدت الحكومات القدرة على لجمه؟

أسئلة كثيرة مرّت بخيالي، رغم أنني أرى مئات السيّارات المحمّلة بالحديد والأسمنت تدخل إلى المخازن، ويتم إغلاق المخازن بسرعة بالجنازير والأقفال في بلادنا مع آلاف الأطنان من البويات والأدوات الكهربائية المستوردة والثلاجات وباقي الأجهزة الكهربائية، وأرى أيضا الآلاف من شتلات النجيل والنخيل المنقول من الواحات بالقرب من شتلات الورد والزيتون في انتظار الشاري، ولا أرى معملا طبيعيا في مدرسة إعدادية، بعدما فرغت المدارس، إلا من دفاتر الحضور والانصراف في المواعيد المحدّدة، ولا أرى التلاميذ بالمئات، إلا أمام "السنترات" فقط، وأرى الآلاف من الكتب المطبوعة منشورة في مطابع مؤسّسات الدولة القومية جدا من دون أن أقرأ كتابا واحدا عن رحلة في صحراء أو واحة أو رحلة قام بها أيّ أمير من الأسرة العلوية إلى منابع النيل أو حتى رحلة البرنس أحمد حسنين إلى الواحات، رغم أنه ابن فلاحين، مثل نقيب الفلاحين وخازن البصل، "أبو صدّام".

فقط أرى الطموحات المكسورة في عيون الشباب المشتاق للهروب أو السفر حتى إلى الموت أو العمل في ليبيا (ولا أعذره بالطبع)، الهرب بأي ثمن، حتى ولو باع قيراطين من قراريط أمه أو حتى نصف الدار بعد ما يسرق حجّة البيت أو القيراطين. سعار ملهوف على نيل أشياء هناك، سواء في الغيب، أو من خطابات من أفلت وسافر، أو "كسلفة من بنك" أو انتظار لشيءٍ هناك، كحوالة بنكية أو بريدية.

دكاكين تتحوّل بسرعة البرق من نشاط إلى آخر، وأناس تدخل المحاكم بالمئات، وتخرج مضطربة من دون أن تنتهي مشكلاتها ووكلاء محامين في انتظار الزبائن الذين تأخّروا، وأناس أمام البنوك في انتظار قرضٍ أو تحصيل الفوائد. أما عن المخالفات المرورية فحدّث ولا حرج، نتيجة عدم وضع "الاستكر" على الزجاج، وسيارات الشرطة، هناك توقّف عشرات من الركّاب الغلابة للتهرّب من مخالفات البناء أو النفقة الزوجية لبنك ناصر الاجتماعي أو شيكات موتوسيكل أو توك توك تمت سرقته ولم يعد إلى صاحبه ثانية، والمباحث في المقاهي في رؤوسهم عيون ذئاب في انتظار الصيد لتنفيذ الأحكام أو الدفع لهم من تحت الترابيزة، كي يعودوا، في آخر اليوم، بالفاكهة للأولاد فوق الدرّاجات البخارية إلى قراهم المجاورة، وسيارات الشرطة تنتقل بخفّة وكثرة أمام المحاكم لتوريد البضاعة اليومية غلى ساحات السجون العمومية، وفوق كل موتوسيكل وبناية وموتور كهربائي لنقل المياه في مدرسة أو مستشفى أو وحدة محلية ترى ألوان الأعلام تغطّي تماما المساحة، حتى وصلت الأعلام إلى القطارات بطول أي قطار، وإلى مقطورات النقل و"الأتوبيسات" العامة والخاصة والوحدات الصحيّة والبيطرية، ووحدات تحديد النسل و"السايبرات"، بعد مراقبتها وصرفها إلى أعمال أخرى كالطباعة أو مراجعة الدروس أو بيع مساحاتها كأفران خاصة لبيع العيش بسعر السوق العالمي، وحدها محلّات تصوير المستندات التي تعمل بهمّة للحصول على معاش تكافل وكرامة، أو تسديد مصاريف الكتب للتلاميذ.

يعود المرء كي يبحث عن الوطن في الكتب، كي ينتبه إلى أن 2023، بكل ما كان فيها، قد أوشكت على النهاية، ونحن في بداية 2024، رغم كل الأموات في كل بلد، ورغم دماغ بوتين "الذي ما زال ناشفا"، بعدما وزّع جواكته الحمراء على أغلب زعماء أفريقيا، محتفظا بترسانات نووية وغوّاصات ومئات الأطنان من الذهب والغاز والنفط "الذي يزيد سعره أيضا". ورغم ذلك، يتقاتل جنرالان في السودان بعدما جاع نصف سكّانه على المُلك، وجنرال آخر في ليبيا ينتظر بيع البلاد حتى "خردة البلد"، وآلاف من الأخوة في غزّة انتقلوا إلى السماء، وسبعة آلاف ما زالوا تحت الأنقاض، فهل من الممكن أن نجد سلوانا في الكتب، حتى وإن عرفنا كل شيء؟

دلالات
720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري