جابر عصفور .. الناقد أم التنويري؟
استحقّت جهودٌ للناقد، الراحل أخيرا عن 77 عاما، جابر عصفور، التثمين، سيما وأن درسَه طه حسين ورواياتٍ عديدةً ونصوصا وفيرة من الشعر الحديث (وبعض القديم)، وكذا مطالعاته في النقد العربي، حديثه وعتيقه، وكذا في النظريات النقدية الغربية التي ترجم كتبا عنها أيضا، انطبعا بذائقةٍ عاليةٍ، وتبصّرٍ ظاهرٍ في الأعمال الأدبية، في الشكل وتجاريبه، وفي المضامين والمرسلات، وبلغةٍ اتصفت غالبا بليونةٍ، ونمّت عن درايةٍ بمناهج التحليل والتفكيك الأدبي. ويُحسَب للراحل، وهو أستاذٌ جامعي عتيد، أن إطلالاته النقدية طافت على نتاجات أسماء عربيةٍ بلا عدد من مختلف الأجيال. وإلى دأبه هذا الذي واصله عقودا بمثابرةٍ كان يُغبط عليهما، كان عصفور وراء تأسيس المجلس القومي للثقافة وتولّى رئاسته سنواتٍ، المؤسسة المصرية التي كان انفتاحها على الفضاء العربي من أهم عناوينها. كما أسّس المركز القومي للترجمة الذي يسّر ترجماتٍ وفيرةً، لها قيمة عالية في غالبها، لنصوصٍ متنوعةٍ من لغاتٍ عديدة. وفي الغضون، ظلّ صاحب "غواية التراث" صاحب حضورٍ واسع في منابر ثقافية عربية، وفي دوريات وصحف عدة. ومن فرط ما كان عليه نشاطُه، في عمله الوظيفي، وفي متابعاته وكتاباته هنا وهناك، وإشرافه على أطروحاتٍ جامعيةٍ، ومشاركاته في ندواتٍ ومؤتمراتٍ في المشارق والمغارب، وإصداراته الكتب (60 كتابا)، فإن سؤالا كان يُبديه معارفه بشأن إدارته نهاراته ومساءاته.
لم يحصُر جابر عصفور نفسَه في الدرس الأدبي والترجمة والتدريس والتنشيط الثقافي، وإنما وازى هذا كله (وغيره) بحضوره صاحب رأيٍ في الشأن العام، لقناعةٍ أقام عليها بأن دورا يلزم أن يؤدّيه المثقف، سيما النقدي، في مجتمعه. لكنه، في محكّاتٍ غير قليلة في حاله هذا، خصم كثيرا من صورته، وآذى شخصَه، سيما وأن خياراتٍ اتّجه إليها لم تتّسق مع دعاويه وادّعاءاته، ومع خطابه وما واظب على الجهر به. ولا يتّصل هذا القول بعمله الرسمي ذاك إبّان نظام حسني مبارك، فقد كان يعمل في الدولة المصرية، وأجاد وأضاف في ما صنع، ولا في صمته المديد عن سوءاتٍ كثيرةٍ لهذا النظام، وإنما هو قولٌ متعلقٌ بممالأته مبارك في غضون مظاهرات ثورة يناير، وقد اعتبر في أثنائها أن لا مصري عاقلا ضد الرئيس، وقال إنه مطمئنٌ على الوطن في ظل مبارك. ولمّا قال لاحقا إنه أخطأ في قبوله منصب وزير الثقافة في تلك الأيام (استقال بعد تسعة أيام) فإن من طبيعيّ الأحوال سؤاله بشأن ازوراره عن الانتصار للثورة، وقد أخذ تاليا يكتب في "الأهرام" عن تزوير نظام مبارك "إرادة الأمة" في الانتخابات.
يُؤتى على تلك الواقعة (لا يُنسى أيضا قبوله جائزة من القذّافي) للعبور منها إلى أن إسراف كثيرين ممن نعوا جابر عصفور في الحديث عنه "رائد التنوير" و"أستاذ التنوير والإبداع" وأحد أعمدة التنوير" و...، لا يستقيم مع اصطفاف مع السلطة الراهنة في مصر، وهو الذي طالما ألحّ على "الدولة المدنية"، وكتب كثيرا في مناهضة الاستبداد السياسي والإسلام السياسي، وأفرد مقالاتٍ بلا عددٍ للعقلانية والتنوير، وأصدر عنهما خمسة كتب. ومع الاتفاق مع الراحل في تشديده على إعمال العقل ونبذ التسلّط والنأي عن الأصوليات ورفض التطرّف الديني، وعلى حرّيات الفكر والإبداع، إلا أن الناظر في مواقفه لا يلقى غير تنديدٍ يتيمٍ بما سمّاه "تحالف" أنور السادات مع الإسلام السياسي. ومع التسليم البديهي بحق جابر عصفور في النقد الحادّ الذي زاوله ضد الإخوان المسلمين وغيرهم، بل ومع اتفاقٍ معه في بعض ما كتب بشأنهم، إلا أن صمته عن انتهاكاتٍ مريعةٍ يرتكبها النظام المصري الراهن، في السجون وخارجها، بحق ناشطين وأصحاب رأي، بل وبإخوانٍ أيضا، يدينه، ويسوّغ أكثر من علامة استفهام بشأن دعوى التنوير التي نشط في إشاعتها، فتنويرٌ بائسٌ هذا الذي يجعل داعيةً صنديدا له في منزلة جابر عصفور يمالئ نظاما، عسكريا في الأول والأخير، يزوّر "إرادة الأمة" أيضا في انتخاباتٍ معلومة النتائج، يصبح فيه صاحب "للتنوير والدولة المدنية" وزيرا للثقافة، في 2015.
لم يكن مطلوبا من عصفور أن يكون فدائيا، وإنما أن يكون تنويريا تماما، أقلّه انسجاما مع نفسه، فغالبا ما اتصفت تنويريته بالانتقائية والنقصان والتزيّد والانفعال والشطط، وجافاها العقل الشجاع في غير أمر. كانت حولاءَ وعرجاءَ وبكماءَ وعمياءَ في شأن افتئات السلطة الحاكمة في مصر على حقوق مصريين طالب الراحل لهم بحرية الفكر. ولذلك، أستحسن في جابر عصفور، رحمه الله، صفته ناقدا، ولا أرى صفته تنويريا مستحقةً تماما.