ثقافة تقطيع الأعناق

11 اغسطس 2019
+ الخط -
حينما نتحدّث عن الإنسان العربي، نقصدُ الرجلَ، الذَكَرَ، حصراً. كل خطابات النصح، والأمر، والنهي، والرجاء، والاستحسان تُوَجَّهُ إلى الرجل باعتباره مركزَ الكون، صاحبَ السلطات كلها، المدللَ، المحبوبَ، الذي لا يعيبه نتوءٌ في شكله الخارجي، أو سلوكٌ مشين يصدر عنه.. وأما المرأة فلم يُوَجَّهْ إليها خطابٌ واحد، عبر العصور، غيرُ الإعلانات التلفزيونية المتعلقة بالطبيخ، وسوائل الجلي، وحفوضات الأطفال، ومساحيق الغسيل، وأفضل الطرق لتنظيف المداخن من الشحار، وكيفية معالجة البالوعات المسطومة.. بالإضافة إلى نصائح الوُعَّاظ الذين يتصدّرون شاشات الفضائيات العربية على إطاعة بعلها، وتزويده بالمتعة على الدوام، والائتمار بأمره، واتقاء غضبه. ومن طرائف هذه الوضعية المختلة، أن ثمّة عقوبات مشدّدة يفرضها المجتمع على المرأة، إذا أقدمتْ على فعلٍ مشترك مع رجلٍ ما، ويعفى الرجلُ من العقوبة المفروضة على الفعل نفسه! 
ثمّة فرضية يزعم كاتب هذه السطور أنها قريبة من الصحة، أن الزمن يتغير والعقل العربي لا يتغير، وليس في حسبانه أو مقدوره أن يتغير. إنه عقلٌ ضيقٌ يقوم على الثنائيات.. عقلٌ يضع الكتاب مقابل السيف، واللهوَ مقابل صناعة الأمجاد. دعونا نتأملْ، على سبيل المثال، في قول أبي الطيب المتنبي (915 - 965م): ولا تَحْسَبَنّ المَجْدَ زِقّاً وقَيْنَةً/ فما المَجدُ إلاّ السّيفُ والفتكةُ البِكْرُ.. ولسوف نجد أن هذا البيت ينتمي إلى شعر "الحكمة" الذي اشتهر فيه المتنبي، وفيه تقسيم صارم لنماذج الرجال بين واحدٍ يُمضي عمره في شرب الخمور واللهو مع النساء "الجواري والقيان"، وآخر لا يتوانى عن إشهار سيفه على الأعداء والفتكِ بهم. وهذا الأخير، برأي الشاعر، هو أنموذج الرجل صانع الأمجاد.
هنا دليل آخر على أن العقل العربي لا يتطوّر، أن معظم المتحدّثين والخطباء المعاصرين يستشهدون بهذه الأشعار ذات الطبيعة الثنائية، ويترنّمون بها، ويأخذون منها الحكمة.. بمعنى أنها لا تُحاكم بوصفها جزءاً من عقلية قديمة متخلفة، بل صالحة حتى لزماننا.. وعليه، يمكننا أن نحاكم بيت المتنبي "ولا تحسبن المجدَ زقاً.." بمنطق معاصر، ونُسَائِلَهُ: أليس ممكناً أن يعيش الإنسان حياة غنية متعدّدة الجوانب، فيقرأ الكتب، وينشر العلوم والآداب، ويأخذ حقه من المتعة واللهو، ويضع الدساتير، ويسنّ القوانين، وفي الوقت نفسه، يحمل السيف للدفاع عن نفسه في مواجهة الأخطار؟ وبالطبع، عليه أن يحمل السيف من دون أن يلجأ إلى الفَتْك بالآخرين بلا سبب أو ذنب، أو أن يلجأ إلى "تقطيع أعناق الملوك" كما جاء في مطلع البيت التالي من قصيدة المتنبي المذكورة.
ولع العرب بالقوة التي يرمز لها السيف قديمٌ ومتجدّد. أبو تمام جمع أشعار الحماسة في ديوان كبير. ومع أنه مَضَى أكثر من ألف ومئتي سنة على عصر أبي تمام ما زال العرب يترنمون بالبيت الذي استهل به قصيدته التي قالها يوم "فتح عمورية": السيف أصدق إنباءً من الكتبِ/ في حدّه الحد بين الجِدِّ واللعبِ. النقاد، لئلا تظهر كراهيتهم العلم والثقافة اللتين ترمز لهما "الكتبِ"، أعلنوا أن ما عناه الشاعرُ هو كتب السحر، وادعاءات المشعوذين بأن فتح عمورية سوف يكون فألاً سيئاً يأتي معه نجمٌ مذنب يهلك الجميع.. وبما أن الفتح تم، بحد السيف، ولم يظهر النحس، يستنتج المرء أن الإقدام هو الأجدى، والأقرب إلى منطق الأمور.
بقي أن نقول، في خاتمة هذا الحديث، إن من يقرأ تاريخنا، ويجده مليئاً بالحكم والأمثال والمواعظ، سيراوده اعتقادٌ بأننا أمةٌ عاقلةٌ، حكيمةٌ، تستفيد من مواردها وإمكاناتها، وتسوس شعوبها بنزاهة وأريحية، وإذا نظر إلى واقعنا المتخلف، سيجزم بأن الحكم التي نتبعها كلها خاطئة، وأولها حكمة تقديم السيف على الكتاب، لا بل إنها حكمةٌ جعلت الذي يسوى والذي لا يسوى يعتدي علينا ويهزمنا، بينما نحن مستمرّون في إلقاء أشعار الحماسة.
دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...