"تيك توك" وكاتم صوت

"تيك توك" وكاتم صوت

06 مايو 2024
+ الخط -

انْتَشَرَتْ أقاويلُ وإشاعاتٌ كثيرةٌ إثر مقتل الـ"بلوغر" العراقية غفران مهدي السوادي، المعروفة بـ"أمّ فهد"، الأكثر شهرةً في مواقع التواصل الاجتماعي، و"تيك توك" خصوصاً. قُتِلَتْ المغدورة برصاصتيْن عند باب منزلها، وهي تهمّ بالترجّل من سيارتها، بيد مجهول استخدم كاتم صوت لتنفيذ جريمته، التي صُوّرَتْ وبُثّتْ وقائعها، فشاهد الجميع القاتل متنكّراً بلباس عامل توصيل يُجهز عليها، ويسرق هاتفها النقّال، ويلتقط غلاف الرصاصتين ويضعهما في جيبه، مغادراً موقع الجريمة بهدوء تامّ. قيل كثير عن ارتباطاتها المُثيرة للجدل بأجهزة أمنية، وبرجال سياسة، وتورّطها في خلافات حادّة مع مُؤثّرة عراقية، لا تقلّ شهرةً عنها، وتهديد الأخيرة لها بنشر وثائقَ وصورٍ تفضح علاقاتها المشبوهة مع مسؤولين من عيار ثقيل. وكان كثيرون قد ندّدوا بالمحتوى الهابط الذي تنشره، على حدّ قولهم، وبسلوكها المُستفِزّ، وبمظاهر ثرائها الفاحش غير المعروف مصدره.
تباينت ردود فعل الشارع العراقي على هذه الجريمة البشعة في قلب العاصمة بغداد، رغم التشديدات الأمنية التي يلاحظها أيّ زائرٍ للمدينة، في كلّ شارعٍ وعند كلّ زاوية. قلّة من المُتابعين ترحّموا عليها ودعوا لها بالمغفرة، ودانوا قتلها بهذه الطريقة المروّعة، أمّا الشريحة الأكبر من المتابعين، فعبّروا عن ابتهاجهم بما حدث، وباركوا فعلة القاتل المأجور، عامل التوصيل المُتَنَكّر، وحرّضوا على مزيد من هذه الجرائم لتنظيف البلد من "هيج أشكال" على حدّ تعبيرهم، الفجّ والصادم. وقد شهد الشارع العراقي عمليات قتل مماثلة طاولت حيوات بعض المؤثّرين والمؤثّرات من نجوم الـ"سوشيال ميديا"، ترى الجموع محتوياتهم تنافي الشرائع والعادات والتقاليد، في بلدٍ محافظٍ تحكمه غالبية مُتشدّدة. لم يُفكّر أيٌّ من هؤلاء القتلة الذين اغتالوا ضحاياهم (غالبيّتهم فتيات صغيرات مُضلّلات انجرفن في عالم الشهرة الكاذب) في التوجّه إلى القضاء، ورفع قضايا في حق من يرون أنّه يتجاوز الأحكام والقوانين، أسلوباً مدنياً حضارياً كي يعاقبن بالحبس أو الغرامة، بل لجأوا إلى أسهل الحلول وأسرعها؛ التصفية الجسدية حمايةً للشرف الرفيع من الأذى (!) وسط مباركة مجتمعٍ، المفترض أنّ أفراده تعلّموا الدرس، وعانوا ما عانوه من عُنفٍ وحروب، وانقسامات وتمزّق.
ولا يختلف المشهد في بلاد عربية كثيرة، فقد قُتلت في مصر فتاةٌ ذبحاً من الوريد إلى الوريد، على باب كلّيتها، بيد عاشق مرفوض، وانبرى كثيرون للدفاع عنه، والبحث له عن أعذار من خلال تشويه سمعة الضحية، بتلفيق الأكاذيب والإشاعات التي نالت من كرامتها، وسعياً لشيطنة عائلتها المكلومة، وتحميلها المسؤولية، غير أنّ القضاء قال كلمته العادلة، ونال الجاني جزاءه حُكماً بالإعدام، وسط استهجان وتنديد عددٍ هائلٍ من المُتعاطفين مع الجاني، والصادم أنّ معظمهم نساء (!). وفي جريمة مشابهة في الأردن، كانت الضحية طالبةَ طبّ معروفة بحُسن أخلاقها، ورزانة مَظهرها، كان ذنبها أنّها رفضت المُجرم الذي ظلّ يلاحقها، وحين أصابه اليأس أقدم على فعلته في وسط الجامعة، غير أنّه نال القصاصَ درساً وعبرةً لمن تسوّل له نفسه الاستهانة بحقّ الحياة، والاستقواء على النساء، بسبب عُقدٍ نفسيةٍ متراكمةٍ لديه، وإحساسٍ بأنّ حياة المرأة أقلّ قيمة من حياة الرجل.
نترحّم على أمّ فهد، التي دفعت ثمن اندفاعها غالياً، ونتمنّى أن يُقبض على قاتلها تحقيقاً للعدالة والأمن المُجتمعي، ونُصرةً للنساء المغدورات اللواتي يذهب دمهنّ هدراً، ويُقدَّمْن بلا تردّد قرابينَ بشريةً غير مأسوف على شبابهنّ، حفاظاً على أوهام العفّة والطهارة والصلاح، في مجتمعات ذكورية متوحّشة، تبارك خطايا الرجل مهما بلغت جسامتها، وتعتبرها هفوات يمكن التغاضي عنها، وتُعلّق مشانق الإدانة للنساء، حتّى بعد قتلهنّ. وهنا بالضبط يكمن الرعب كلّه. 

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.