تلك الصواريخ

26 مارس 2022

آثار القصف الإيراني في إربيل شمال العراق (13/3/2022/فرانس برس)

+ الخط -

لا أحد أفصح عن موقع سقوط الصواريخ الإيرانية في أربيل، باستثناء من أطلقها بالطبع وهو الحرس الثوري الإيراني، فقد جاءت الروايات العراقية غائمةً مضطربة، وتحدثت، في معظمها، عن "مناطق سكنية" بعيدة عن موقع القنصلية الأميركية، وهو ما يعزّز صحة الرواية الإيرانية بشأن استهداف "موقع استراتيجي للموساد الصهيوني" على أرض أربيل.

عمومًا، لنترك جانبًا "الغمغمة" و"المراوغة"، فهذا وقتٌ لا يحتمل غير تسمية الأشياء بأسمائها، وطرح أسئلة واضحة وصريحة على غرار: ماذا يفعل الموساد الإسرائيلي في إقليم كردستان؟ والحال أن هذا السؤال يعيدنا إلى مربّع الاحتلال الأميركي للعراق وأهدافه المبيّتة ضد هذا القطر العربيّ "المزعج" للكيان الصهيوني، فقد كان واضحًا أنه احتلالٌ من أجل التفتيت والتجزيء والمحاصصة، تقاسم فيه مكوّنان رئيسيّان حصة الأسد من الجغرافية والموارد، الشيعة والأكراد، بينما أوْلى الاحتلال جلّ اهتمامه للإقليم الكردي، حصرًا، نظرًا إلى طبيعة تشابكاته وتوزّع الأكراد أنفسهم على جغرافيات متعددة، ولأنه وجد في زعاماتٍ كردية طرفًا رخوًا قابلًا لعقد الصفقات وتقديم التنازلات، لقاء أيّ نوعٍ من الاستقلال باللغة والجغرافية والهوية، والانسلاخ عن سلطة بغداد بأي ثمن، وبأي تحالف، حتى لو كان تحالفًا مع الشيطان. وحدث التحالف، فعلًا، مع الشيطان ممثلًا بإسرائيل، بدليل رفع علمها غير مرة في الإقليم، وهو ثمنٌ كان ينبغي دفعه بالاتفاق مع أميركا لقاء الاستقلال. وأما إسرائيل فأعراضها معروفة، ولا تقف عند حدود رفع العلم أو التمثيل الدبلوماسي، بل تريد موطئًا أقرب إلى إيران، العدوّ الاستراتيجي الجديد، الذي ينبغي إضعافه وضربه، وحبك المكائد والدسائس ضده، ولن يتأتّى ذلك بغير قواعد تجسّس متقدّمة يديرها الموساد و"سي آي إيه".

في مقابل ذلك، لم يدُر في أفهام أولئك الأشرار العاملين بارتياح في الوسط الكردي أن الأداء الإيراني في السنوات الأخيرة لا يقتصر على البرامج النووية، وتطوير الأسلحة، ومحاولات ارتياد الفضاء، بل ثمّة تطوّر أيضًا على الصعيد الاستخباراتي بأدواته التكنولوجية الحديثة، على غرار الهجوم السيبراني الذي طاول أخيرا مقرّات حكومية إسرائيلية، فلم يكن صعبًا على الاستخبارات الإيرانية إدراك ما يُحاك ضدها على أرض كردستان، وجاءت الضربة الصاروخية في توقيتٍ دقيق للغاية، يدل على ذكاء آخر في الأداء السياسي الإيراني، عندما استغلت طهران حالة البلبة العالمية القائمة جرّاء الحرب الروسية الأوكرانية، مدركةً أنها تثبّت قدمًا في هذه الأرض السّبخة، تمهيدًا لمرحلة مقبلة تسقط فيها أقطابٌ وتصعد أخرى.

أما من حيث ردود الفعل على الضربة الإيرانية، فيمكن القول إنها متوقعة، في معظمها، حتى في الجانب العربيّ، حيث تشعر أنظمة حكم عربية بخسارة "شخصية" لفقدان عدد من ضباط الموساد، خشية أن يؤثّر ذلك سلبيًّا على نظرتها إلى إسرائيل "حليفًا مستقبليًّا".

شخصيًّا؛ أعرف أين سقطت الصواريخ الإيرانية تمامًا، وأستطيع التأشير إلى الموقع بدقة، وفي وسعي القول مطمئنًّا إنها سقطت على قلبي وقلب 437 مليون عربي بردًا وسلامًا وشفاء للغليل، ومعنا شهداء كثر لا يبدأون بغسان كنفاني، ووائل زعيتر، ومحمود الهمشري، وباسل الكبيسي، ولا ينتهون بكمال عدوان ويوسف النجار، وكمال ناصر، وصلاح خلف، ويحيى عياش، والقائمة أطول من أن تُحصى، وأغزر من دموع أعوان "الموساد" العرب على قتلى "الموساد".

بمثل هذه الضربات، فقط، ننتقل من هوامش الدفاع إلى متن الهجوم، ونخرج من عقدة الضحية المزمنة إلى فلك الفعل القائم على ردّ الاعتبار، ونطارد خفافيش "الموساد" في كل العواصم، حتى وإن كانت عواصمنا. أما الحديث عن "انتهاك السيادة"، التي يتباكى عليها بعض الرسميين العرب، بالصواريخ الإيرانية، فلا تستحقّ غير الرثاء الممتزج بالسخرية المرّة على بلاد منتهكة حتى النخاع بالبسطار الأميركي.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.