تقويض الفاعلية الوطنية للجامعات الفلسطينية
لعبت الحركة الطلابية الفلسطينية دوراً مهماً في التثقيف النضالي والتعبئة الوطنية بخطورة المشروع الصهيوني وضرورة مقاومته، ولعل من أوائل الأنشطة المؤتمر الطلابي الأول في مدرسة المنشية في يافا، 10 مايو/ أيار 1936، للمشاركة في الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939). ولما وقعت النكبة، تشظّى المجتمع كلّه، بما فيه طلبته، ليصبح بين قابع تحت الحكم العسكري وآخر مهجر خارج البلاد.
أعيد لم شمل الطلبة الفلسطينيين مع تأسيس الاتحاد العام لطلبة فلسطين في الخارج (1959)، والذي ألحق بمنظمّة التحرير بعد تأسيسها عام 1964. وكان من اللافت مساهمة الطلبة في تأسيس الفعل الفلسطيني المقاوم في تلك الفترة، حيث قادوا العمل النضالي بمختلف مراحله، ولعلّ نموذج الكتيبة الطلابية (كتيبة الجرمق) خير دليل على هذا الفعل والفاعلية. وتواصل المدّ الطلابي للثورة المعاصرة بتأسيس التيارات الإسلامية في الجامعات العربية، ثم نقلت التجربة إلى الجامعات الفلسطينية بعد تأسيسها في السبعينيات. وكان ذلك في الجامعات الفلسطينية حديثة النشوء، أو في الجامعات العربية العريقة، وكانت هناك مراحل فارقة في العمل الطلابي الفلسطيني، من أبرز عناوينها نموذج الكتيبة الطلابية في لبنان، ثم بروز الحركة الطلابية الوطنية في المعاهد والجامعات الفلسطينية بعد سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، أمّا النموذج الثالث فهو انخراط الأطر الطلابية الإسلامية في المشهد السياسي مع ظهور الكتلة الإسلامية (1979)، قبل الإعلان "الرسمي" عن تأسيس حركة حماس التي تشكّل المرجعية التنظيمية لها. نتيجة نشاطها النقابي/ الاجتماعي/ السياسي في الانتفاضة الثانية (2000)، لجأ الاحتلال لتصنيفها إطاراً طلابياً محظوراً، مهدّداً المنتمين إليها. غير أنّه، ومع سلوك منظمّة التحرير التفاوضي في نهاية الثمانينيات تردّى الفعل النضالي، موّلداً السلطة الفلسطينية بعد توقيع اتفاقية أوسلو (1993)، ليبدأ مشوار القمع وملاحقة العمل المقاوم في الضفة، وتبدأ المنظمة مشوار "هدم ما بدأته".
بعد الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس (2006 - 2007)، الذي كان من سماته المعقدة تشديد القبضة الأمنية على النشاط النقابي والسياسي، واستهداف مكثّف لنشاط الكتلة الإسلامية في جامعات الضفة الغربية، واستمرار ملاحقة الأطر الطلابية التي تعارض السلطة القائمة ونهجها التفاوضي، تقيّدت فاعلية الحركة الطلابية ودورها برفد الحالة النضالية للمجتمع.
تعليم إلكتروني وساحات فارغة
منذ العبور الكبير للمقاومة الفلسطينية، في 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل، وبداية عدوان الاحتلال الانتقامي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة والضفة الغربية وعموم فلسطين، حوّلت الجامعات الفلسطينية في الضفة الغربية دوامها إلى إلكتروني نتيجة إغلاق الاحتلال مدن الضفة، إلى جانب الاعتقالات اليومية التي تستهدف نشطاء الحركة الطلابية، الأمر الذي بات مألوفاً في الجامعات الفلسطينية على قاعدة: خير وسيلة للدفاع الهروب، ومزيد من الهروب.
لا يُخفى على أحد أنّ الحركة الطلابية في الجامعات كانت تساهم بالحشد للمظاهرات والحثّ على المواجهة مع الاحتلال والاشتباك، امتداداً لإرث شهداء وأسرى كانوا في الحركة الطلابية، مثل خليل بدوية، سعد جرادات، فتحي الشقاقي، يحيى عياش، مروان البرغوثي، وخضر عدنان، متسلّحين بقيم الحرية والنضال المستمدّة من حالة المقاومة، الأمر الذي يفترض كونه طبيعياً ضمن الحالة الحالية في حال استمرّ الدوام الجامعي الوجاهي، الأمر الذي أضعفه، وربما قتله التعليم الإلكتروني. وذلك من وجهة نظر النشطاء من الطلبة.
شهدت "المرحلة الفياضية" (رئاسة سلام فياض الحكومة الفلسطينية)، تشديد الخناق على الدور الوطني للجامعات
واستكمالاً لدورها الوطني، ورغم ما تتعرّض له الحركة الطلابية من قمع وملاحقة واعتقال وتضييق الخناق ومحاولة حصارها، إلا أنّها تحاول دائماً حثّ طلبة الجامعات على المشاركة في المظاهرات في مراكز المدن ونقاط المواجهة. حيث حشد مجلس اتحاد الطلبة في جامعة بيرزيت عدّة وقفات ومسيرات بصفة منفصلة عن المؤسّسات والقوى الوطنية في رام الله، إلى جانب تعليقها الدوام الإلكتروني لتكثيف الحضور الطلابي، دافعاً الاحتلال لاقتحام حرم الجامعة، فجر الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر، مداهماً مقرّ مجلس الطلبة والكتل الطلابية، معيثاً فيه خراباً. وعلقت الجامعة حينها "إن عدوان الاحتلال لن يكسر إرادة جامعة بيرزيت وطلبتها، والعاملين فيها؛ وإنما سيبقون متمسّكين برسالة العلم والتعلّم والنضال والتضحية في سبيل الحرية والاستقلال".
وأفاد الأكاديمي الفلسطيني وسام رفيدي، بشأن نشاط الحركة الطلابية في الميادين العامة، بأنّها غير متمركزة في الجامعات، بسبب تحوّل الدوام إلى إلكتروني، مضيفاً "إن المشهد الحالي ككل أكبر من أن تقوده الحركة الطلابية، لأن الحدث مفصلي وتاريخي وغير مسبوق". فيما ترى رئيسة نقابة العاملين في جامعة بيرزيت، الدكتورة لينا ميعاري، أنه "بعد اتفاقية أوسلو، تحولت الحِركات الطلابية الشعبية الجمعية المُنظمّة إلى هياكل غير قادرة على الحشد بالرغم من وجود محاولات حثيثة من الناشطين بالحركة الطلابية ومجلس الطلبة لدعوات الوجود، لكنها لم تكن كما المأمول".
الجامعة بين التعليم والتعبئة الوطنية
يُعطي الفلسطينيون قيمة عُليا للتعليم والثقافة بوصفهما أداة للمعرفة التي تقود إلى التحرّر والانعتاق من الاحتلال، لذلك تُوكل مهمّة التعبئة المعرفية التحرّرية للتعليم، لأنّها تتسق مع الرؤية الوطنية الجمعية.
يكتب الباحث إيهاب محارمه في مقال عن التعليم الفلسطيني: "المطلوب مقاومة نظام التعليم القائم وفق أسس (التعليم التحرّري) والتأسيس لتعليمٍ مقاوم يرتكز على التشاركية بين المُعلم والمتعلِم؛ للوصول إلى المعرفة بدون تحكّم السلطة، وتعليم يلغي التمييز والإقصاء القائم على توظيف السلطة لمعرفتها، وتعليم يعزّز من التجاوب من أجل رفع مستوى قدرات المجتمع المحلي، وتعليم يتصدّى لتدخل المؤسسات الدولية والدول المانحة".
ومع تبني السلطة الفلسطينية سياسات النيوليبرالية، جرت "سلعنة التعليم"، وتفريغ الجامعات من دورها التعبوي والنضالي، باعتبارها المتمسّكة بالملمح الأخير من ملامح الهوية الوطنية.
ترصد الحكومة الفلسطينية حوالي 5% فقط للتعليم من الموازنة السنوية للحكومة، وبالتالي تعيش الجامعات أزمات مالية متتالية، ولا سيما جامعات بيرزيت وبيت لحم والنجاح
وقد شهدت "المرحلة الفياضية" (رئاسة سلام فياض الحكومة الفلسطينية)، تشديد الخناق على الدور الوطني للجامعات، محدثةً تحولاً في بنية المجتمع الفلسطيني وتنشئته، حيث أصبح المال معياراً للتفاضل، بدلاً من الثقافة والتعليم، ما زاد من اغتراب المجتمع عن التعليم، لتصبح المرحلة الجامعية "بطالة مؤجّلة"، كما يصفها الباحث بلال سلامة. ويعتبر هذا في سياق الحديث عن الجامعة بوصفها مؤسّسة تعليمية. أمّا البيئة الاجتماعية لها، فمثلت الجامعات ساحةً تمارس فيها الأحزاب السياسية التعبئة والتنظيم، لهذا ساهمت البيئة الاجتماعية للجامعة في تنمية المعرفة التحرّرية والسياسية، المفضية إلى الفعل النضالي المشترك.
وترصد الحكومة الفلسطينية حوالي 5% فقط للتعليم من الموازنة السنوية للحكومة، وبالتالي تعيش الجامعات أزمات مالية متتالية، ولا سيما جامعات بيرزيت وبيت لحم والنجاح، ما حوّلها ساحةً للعمل النقابي من نقابة العاملين، وأخرى من الحركة الطلابية. نتيجة لذلك، حُوّلت ساحات الجامعات ساحات للاحتجاجات والإضرابات، ليساهم ذلك في تغريب الطلبة غير الفاعلين، وقرب الطلبة الراغبين بالانخراط بالعمل النقابي المراكم من العمل الاجتماعي السياسي.
كيف يتم تقويض الحركة الطلابية؟
تفيد النقابية ميعاري بأنّ التدمير والتقويض للحِراكات الجمعية والشعبية لم يتوقفا منذ "أوسلو"، إلا أنّ ذلك أصبح عارياً وواضحاً أمامنا، نتيجة تداعيات العبور وما تشهده البلاد. وتكتب ميعاري: "ما حدث أدّى إلى (تذرير المجتمع): أن يصبح كل فرد مهموماً بمصلحته الخاصة ومستقبله الفردي وليس المصلحة العامة"، مُحدثاً خللاً في شكل التنظيم الحقيقي، الذي انعكس على التنظيم الطلابي ليصبح غير قادر على القيام بدوره المتمثل في الارتقاء بوعي الطلبة.
في إضراب الحركة الطلابية بجامعة بيرزيت عام 2019 حين أغلق الطلبة الجامعة أزيد من 25 يوماً، قالت حينها إحدى الناشطات في نقابة العاملين في الجامعة: "نضالنا الوطني التحرّري لا يستقيم من دون نضالات اجتماعية ونقابية تترافق معه وتسنده، وعلينا الارتقاء بالعمل النقابي الواعي والصلب، طلبة جامعة بيرزيت يخوضون هذا التمرين حاليا".
مع تسلّم الكتل الطلابية المعارضة لنهج السلطة القائمة زمام مجلس طلبة جامعة النجاح، بدأت المناوشات بين الحركة الطلابية وإدارة الجامعة المعروفة بنهجها الموالي للسلطة
يحمل الحراك النقابي في الضفة الغربية القابعة تحت الاحتلال طابعاً اجتماعياً وسياسياً، لذلك تشهد الجامعات فعاليات وطنية. تنظّم جامعة بيرزيت ونقابة العاملين فيها وحركتها الطلابية وقفات إسناداً للأسرى المضربين عن الطعام أكثر من غيرها، وتعلق الدوام وتنقل الطلبة لنقاط التماس، تستقبل عوائل الشهداء والأسرى، وهو ما تسعى السلطة والاحتلال إلى حصره في جامعات بعينها، وتمنع تحوّلها إلى حالة عامة.
لم تتأخّر بداية المناوشات بين الأجهزة الأمنية/ السلطة والحركة الطلابية، حيث اقتحمت الأجهزة الأمنية حرم جامعة النجاح في 30 مارس/ آذار 1996، لقمع وقفة للحركة الطلابية تطالب السلطة بالإفراج عن المناضلين السياسيين، لتنظم الحركة الطلابية مسيرةً نحو مقرّ المجلس التشريعي في وسط رام الله، معلنةً رفض القمع الأمني واقتحام الجامعة. وقد سعت السلطة إلى احتواء الأزمة، بعدما التقاهم الرئيس الراحل ياسر عرفات وطيّب خاطرهم وقدّم الاعتذار لهم.
زادت حدّة القمع والملاحقة الأمنية للحركة الطلابية بعد أحداث الانقسام الفلسطيني (2007)، حيث شهدت الجامعات أحداثاً مؤسفة، وصلت إلى إطلاق النار على الطالب والناشط في الكتلة الإسلامية محمد الردّاد، في حرم جامعة النجاح في نابلس، على يد عناصر مسلحة اقتحمت الجامعة. لتوقف بعدها إدارة الجامعة انتخابات مجلس اتحاد الطلبة.
منذ ذلك الوقت، تحاول الجامعة نفسها حصر فعالية الكتلة الإسلامية وتقويض نشاطها النقابي والسياسي، وتوّجت ذلك بحظر نشاط الكتلة الإسلامية في ساحاتها عام 2019. وقد قالت الكتلة الإسلامية، في بيانها الصادر آنذاك، إن الحظر جاء "استجابةً لضغوط خارجية". والأمر مخيف وخطير، لأن الحركة الطلابية، ولا سيما الإسلامية، في الجامعات الفلسطينية، تساهم بصناعة الكوادر الوطنية والنضالية القادرة على قيادة الفعل الوطني والاجتماعي الصلب والمقاوم. وهذا الحظر بمثابة شدّ الخناق على حالة الفعل المقاوم، وعلى إضعاف بنية المجتمع وقدرته على التفاعل مع قضاياه الملحّة لاحقاً بإنتاج طلبة أقل احتكاكاً بالعمل النقابي والنشاط الميداني، وهذا أمر خطير تقوم به الجامعة التي يُفترض بها إنتاج هذه الحالة لا قمعها.
تتواصل في عموم جامعات الضفة الغربية حالة القمع وإحكام الحصار على نشاط الكتلة الإسلامية تحديداً، لكن جامعة النجاح لا تزال تتصدّر الحالة، حيث تمّ رصد اعتداء أمن الجامعة على الطالب عمير شلهوب، ممثل الكتلة الإسلامية، في يونيو/ حزيران 2022. الأمر الذي دفع الأطر الطلابية إلى تدشين مرحلة وانعطاف جديد في الجامعة عبر تشكيل الحراك الطلابي الموحد، لمطالبة الجامعة بتصويب أوضاعها الأمنية، وكان رد الجامعة أيضاً محاولة قمع هذا الحراك. في النهاية نجح الحراك في دفع الجامعة لفصل مدير أمن الجامعة، والتراجع عن سلوكها الأمني.
شهدت الجامعات عودة انتخابات مجلس اتحاد الطلبة في مارس/ آذار 2023، بعد غيابها سنوات. وساهم انتظامها في جامعة بيرزيت في فوز الكتلة الإسلامية في مجالس بيرزيت والنجاح، بعودة النشاط السياسي والنقابي للحركات الطلابية، الذي يقابله اشتدادٌ للقبضة الأمنية من الأجهزة الأمنية والاحتلال.
مع تبني السلطة الفلسطينية سياسات النيوليبرالية جرت "سلعنة التعليم" وتفريغ الجامعات من دورها التعبوي والنضالي
ومع تسلّم الكتل الطلابية المعارضة لنهج السلطة القائمة زمام مجلس طلبة جامعة النجاح، بدأت المناوشات بين الحركة الطلابية وإدارة الجامعة المعروفة بنهجها الموالي للسلطة. ومع بداية الفصل الثاني، طالب المجلس إدارة الجامعة بتسهيل دفع الأقساط الجامعية، الأمر الذي رفضته الجامعة، لينظّم ممثلو الحركات الطلابية والكتلة الإسلامية والقطب الطلابي اعتصاماً داخل الجامعة، ولم يتم احتواء الأزمة، ومع صبيحة فجر 15 يناير/ كانون الثاني الجاري، اقتحم الاحتلال حرم الجامعة واعتقل الطلبة المعتصمين وعددهم 25 طالباً.
ويرى الناشط في الحركة الطلابية وليد حرازنة أن هناك إدارات في الجامعات ترفض وجود الحَركات الطلابية لتمرير ما تريد من قرارات بدون أي رادع، بالإضافة إلى الكادر الأكاديمي الساعي إلى الصدام مع الحركة الطلابية لا دافعاً لها، إلى جانب التعامل مع الجامعات الفلسطينية على أساس أنها أماكن للتعلم والشهادات فقط. ويرجع حرازنة سبب "الأداء الخجول للحركة الطلابية" إلى وقف عمل الأطر الطلابية المدرسية المكمّلة للأطر الطلابية الجامعية.
تنتهج الجامعات نهج "العصا والجزرة"، لذلك ترى الجامعة أن النشاط الطلابي داخل ساحاتها سيجلب مزيداً من تضييق الاحتلال على سير عملها بوصفها مؤسّسة تعليمية "ربحية"، ولا سيما بعد دخول الجامعات عالم الاستثمار، بالتالي الاقتحامات المتكرّرة والتخريب، وتعطيل عملها. أما "الهدوء" فسيجلب "الاستقرار" للعملية التعليمية. وهي محاولةً إضافية لطمس الدور التعبوي والنضالي الذي يفترض بالجامعة القيام به إلى جانب التعليم، تمارسه الجامعات هذه المرة.
وصلت محاولات الاحتواء للحركة الطلابية إلى حدّ فصل جامعة بيت لحم الطالب فادي عياد، ممثل القطب الطلابي في جامعة بيت لحم، قبل أن يعلن الطالب الإضراب عن الطعام، ويعلن المجلس تعليق الدوام، ردّت الجامعة حينها بتجميد أنشطة المجلس، ووصفت التجميد بأنه جاء "حماية للديمقراطية الحقيقية والصحيحة، وحتى نعيد تركيز العمل وتوجيه البوصلة إلى الهدف الأول للجامعة وهو المسيرة الأكاديمية والإنسانية".
جدير بالانتباه توصيف بيان الجامعة لنشاط المجلس بأنه "ديمقراطية خاطئة"، يفهم من هذا أن "الديمقراطية الحقيقية" تتمثل بعدم وجود حراك نقابي وطلابي لتكون الجامعة ساحة تعليمية و"إنسانية". لا يمكن لهذا الخطاب صناعة طالبٍ ثوريٍّ أو مناضل، بل مقموع من دون إرادة سياسية تحرّرية.
ساهمت البيئة الاجتماعية للجامعة في تنمية المعرفة التحرّرية والسياسية، المفضية إلى الفعل النضالي المشترك
في الثامن من أغسطس/ آب من العام الماضي، بعدما نظمّت الكتلة الإسلامية في جامعة الخليل وقفةً رافضة للاعتقال السياسي، حاولت الجامعة حصر الفعالية ومنع المشاركة الخارجية، نجم عن الشدّ والجذب حينها اعتداء طلاب من الشبيبة الطلابية على طلاب وطالبات من الكتلة الإسلامية والصحافيين في المكان. سعت الجامعة إلى احتواء الأزمة بفصل الطلبة، وتوقيع تعهد بين الأطر الطلابية بعدم تكرار الحادثة، برعاية جهات حقوقية. وكذلك الأمر في جامعة البوليتكنك والقدس، حيث يلاحق الطلبة المحسوبون على الكتلة الإسلامية، وتمارس إدارة الجامعات ضغوطاً إضافية مع الأجهزة الأمنية لثني الطلبة عن القيام بأنشطة سياسية داخل أروقة الجامعة.
ولأنّ جامعة بيرزيت تعطي هامشاً مغايراً بعض الشيء للعمل النقابي والسياسي للحركة الطلابية داخل ساحاتها، أقدم الاحتلال على اقتحامها أكثر من مرّة. في مارس/ آذار 2018، اقتحمت قوة خاصة للاحتلال الجامعة لاعتقال رئيس مجلس اتحاد الطلبة عمر الكسواني، يُراد من هذا الاقتحام والاعتقال "لي ذراع" الحركة الطلابية بالجامعة، وإيصال تهديد "شديد اللهجة".
وبحسب الطالب حرازنة، نشاط الحركة الطلابية تراكمي ولا يتأثر بنيوياً في حال الاستشهاد أو الاعتقال أو الأسر، ولكن تأثيره أحيانا ظرفي ويشكل دافعاً إلى الأمام، والنماذج كثيرة. لذلك ولّد اعتقال الكسواني حالة إصرار لدى الحركة الطلابية، بل وتمسك بالإرث النضالي المقاوم للجامعات، بعد تنفيذ الطالبين يزن مغامس وقسام البرغوثي عملية عين بوبين عام 2019، وهما من النشطاء المحسوبين على القطب الطلابي التابع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فقد ردّ الاحتلال حينها وحظر الإطار الطلابي، واعتقل الفاعلين والنشطاء فيه. وعن ذلك، يقول النقابي وسام رفيدي: "نجد في بيرزيت، كما في جامعات أخرى، نفساً سلطوياً نلمس فيه أحياناً عداءً للعاملين. لقد وصلت الأمور إلى درجة أنّ أحد رؤساء الجامعات طالب محمود عباس بإصدار مرسوم بقوة القانون لمنع الإضراب في الجامعات". حيث سبق للجامعة أن اصطدمت مع الطلبة في عدّة مناسبات، ففي يناير/ كانون الثاني 2022 أغلقت الجامعة قاعة كمال ناصر لتعطيل إقامة الكتلة الإسلامية نشاطاً داخل القاعة بسبب "منع التجمّعات في أماكن مغلقة لظروف انتشار كورونا"، دفع ذلك مختلف الأطر الطلابيّة إلى كسر أبواب القاعة والدخول إليها.
مقاومة الحركة الطلابية التقويض
يوضح الناشط الطلابي حرازنة أنه "مع تغيير في شكل الخطاب الفلسطيني قبل 20 عاماً، ولو تم جلب قيادات الحركة الطلابية قبل 20 عاماً لن تُحدث فرقاً اليوم، ذلك أن الأسباب الموضوعية والظرفية والتقنية أيضا تغيّرت بشكل بنيوي".
يضيف حرازنة أنّ "الانقسام الفلسطيني وانعكاساته تتمثل بعرقلة دورية الانتخابات والاعتقال السياسي التي تُستخدم أداة ضغط على أهل الطالب في حال انخراطه في صفوف حركات طلابية ذات بعد وطني مقاوم رافض لنهج السلطة، وتحوّل النظرة إلى العمل الطلابي من السعي إلى رفع وعي الطالب وطنيًا وفكريًا إلى الاقتصار على الأنشطة الخدماتية، إلى جانب ظهور صوت (يوصم) الطلبة الفاعلين بالحركة الطلابية بأن دافعهم منفعي. المسؤول عن مناقشة ومتابعة أداء الحركة الطلابية هو الاتحاد العام لطلبة فلسطين، وفي غيابه، فإن مسألة المتابعة تكون فردية أو حزبية ضيقة، وليس على صعيد عام حقيقي يؤدي إلى نتائج حقيقية".
ما زال الطلبة هم عماد الثورة الفلسطينية المستمرة حتى الحرية، متخطين العقبات التي تفرض عليهم
تعيش الحركة الطلابية كإطار تنظيمي مقوّض توضع تحدّيات أمامه بشكل مستمرّ، في ظل واقع سياسي واجتماعي متردٍّ تشهده الضفة الغربية. لذلك المطلوب إيجاد تنظيم وإطار يَجمعان الحركة الطلابية لا تشكل الأحزاب السياسية مرجعية له. نبّتت ملامح هذا الإطار حين أسّس طلبة الدراسات العليا في جامعة بيرزيت، بداية العام الحالي، إطاراً طلابياً أطلق عليه اسم "صدى صوت الطلبة": وهو صوت أكاديمي نقابي يهدف إلى تطوير الإنتاج المعرفي في السياق التحرّري. جدير بالاهتمام وجود هذا الصوت في جامعة بيرزيت، والأهم هو عدم حصره في مؤسّسة جامعية بعينها، هذا تقييد آخر تفرضه الحركة الطلابية على نفسها.
ختاماً، لا فرق بين حالة الحركة الطلابية في جامعات الضفة الغربية وواقع الحركة الوطنية الفلسطينية التي شهدت تقويضاً طيلة السنوات الماضية، وهو ما جعلها تشهد فراغاً وإشكاليات متواصلة، ما أن تعمل على حلّها حتى تظهر تحديات جديدة أو إضافية، وبرغم هذا كله، ما زال الطلبة هم عماد الثورة الفلسطينية المستمرّة حتى الحرية، متخطين العقبات التي تفرض عليهم.