"تعديل" المناهج السورية مقلق
كما هو متوقّع، لقي حذف المُكلّفين بشؤون التربية والتعليم في الإدارة الجديدة في سورية كلّ "ما يُمجّد نظام بشّار الأسد في مناهج التعليم في البلاد" ترحيباً واسعاً في أوساط الناس والنُّخَب، لكنّ قرار الحذف نفسه نحا منحىً أبعد، أثار الاستغراب، لا بل القلق. فتحت عنوان "تعديل المعلومات المغلوطة"، التي اعتمدها النظام السابق، "في منهاج التربية الإسلامية مثل شرح بعض الآيات القرآنية واعتماد التفسير الصحيح لها"، نصّ القرار، فيما نصّ، على استبدال عبارات وطنية مثل "الدفاع عن الوطن" لتصبح "في سبيل الله"، وأخرى دينية مثل "المغضوب" عليهم و"الضالين" لتصبح "اليهود" و"النصارى"، فكيف لدولةٍ يشكّل المسيحيون تاريخياً مكوّناً رئيساً من مكوّناتها، ولنخبهم دور مشهود في النهضة الثقافية والفكرية في سورية وفي بلاد الشام عامة، أن يوضعوا في مقابل "الضالّين"! وكيف يمكن لتوجهٍ مريب ومقلق مثل هذا أن ينسجم مع التطمينات التي وجهتها الإدارة الجديدة إلى مكوّنات المجتمع المختلفة لحظة وصولها إلى السلطة، بأنها ستعاملهم وفق مبدأ المواطنة الذي لا يفرّق بين مكوّن وآخر.
يضاف ذلك إلى التساؤل الوجيه عن حدود صلاحية الإدارة المؤقّتة لتسيير الأعمال، التي حُدّدت مدّتها بشهور لا تتجاوز الثلاثة، في إصدار تعديلاتٍ مثيرةٍ للجدل، وباعثة على الانقسام، مثل هذه، فالأمر يتّصل بجوهر الوحدة الوطنية السورية ومستقبلها، وقد تكون هناك حاجة إلى إعادة النظر في المناهج الدراسية، أو في بعض جوانبها، لكنّ مهمّةً مثل هذه يجب أن تُعهَد إلى لجانٍ متخصّصة بعد صياغة دستور جديد للبلاد، متوافق عليه، يضمن التعددية السورية ويصونها، ويساوي في الحقوق والواجبات بين مكوّنات هذه التعددية، التي أثرت المجتمع السوري في مراحله التاريخية المختلفة. لم يقف الأمر عند هذه المسألة وحدها، وإنّما طاول ما هو أبعد وأخطر، حين قاربت التعديلات المشار إليها الجوانب المتّصلة بتاريخ العلاقة مع السلطنة العثمانية، عبر شطب ما تضمّنته مناهج التاريخ السورية في المدارس عن المجازر المرتبطة بالعثمانيين، ونضال السوريين ضدّ هيمنة هؤلاء على وطنهم، ما يحمل على الاعتقاد بأن هذا الشطب تمّ إرضاءً للسلطات التركية، وتعبيراً عن العلاقات الممّيزة التي تجمع بين أنقرة والإدارة السورية الجديدة.
أشار الكاتب السوري رامي كوسا إلى مجموعة من المسلسلات التي تناولت مقاومة السوري للعثمانيين، مثل "حمام القيشاني"، قائلاً: "حتى لو حوّلتم مناهجنا الدراسية إلى ملحقات صحف شرعية، ستغلبكم أغنية أو مقطع منها يتغنّى بشهداء 6 أيّار (مايو)، الذين (تمرجحوا) على مشانقهم بعد أن أصدر العثماني العصملّي المحتلّ الجزار جمال باشا السفاح قراراً بإعدامهم. هؤلاء شهداؤنا، وباقون في الأغنيات والوجدان وفي المناهج التي ستعود كما كانت، يعني ستعود كما كانت". ونشر كوسا صورة فارس الخوري، أحد الآباء المؤسّسين للجمهورية السورية، مُعلقاً: "أحد الضالّين في تاريخ هذه البلاد".
عقد نشطاء سياسيون ومثقّفون سوريون عديدون مقارنةً بين استعانة حكم الأسد بالدعم الإيراني، واستعانة الإدارة الجديدة بالدعم التركي، ففي الحالَين هناك تغييب للقرار الوطني السوري المستقلّ، الذي يتعيّن أن ينطلق أولاً، وقبل كلّ شيء، من عروبة سورية، لأن هذه العروبة بالذات هي الضامن لوحدة النسيج الوطني السوري، بمكوّناته المذهبية والعرقية والدينية المختلفة، السُنّة والعلويون والدروز والمسيحيون، وبما يضمن حقوق الأكراد وغيرهم من غير العرب، فمنذ نشوء الدولة السورية الحديثة، كانت الهُويَّة العروبية، ليست ضامناً لوحدة المجتمع السوري فقط، وإنّما منطلق الدور المهم لسورية عربياً أيضاً، قبل أن تؤدّي الاستقطابات الإقليمية المعقّدة، وتشبّث نظام الأسد بالسلطة، إلى تمكين طهران في سورية، والحريصون على مستقبل سورية واستقرارها، من أبنائها ومن أشقائهم العرب، لا يريدون لها استبدال نفوذ إقليمي بآخر، بأن يحلّ الأتراك في محلّ الإيرانيين.
ولا تلغي عروبة سورية تاريخها العريق السابق للإسلام، فله هو الآخر، دور محوري في تكوين هُويَّة المجتمع السوري، وما دام حديثنا يدور حول التعديلات على المناهج الدراسية، نشير إلى اعتراض الناشطين السياسيين والفنّانين السوريين على ما تضمّنته هذه "التعديلات" من حذف زنوبيا (ملكة تدمر) تحت ذريعة أنها شخصية خيالية، وكذلك إلغاء تاريخ الآراميين والكنعانين والآلهة القديمة، وما يتعلّق بتطوّر القانون وفق شريعة حمورابي. ولم تقتصر التعديلات على الجانبين الديني والتاريخي فقط، وإنّما طاولت أيضاً الجانب العلمي، ومن ذلك حذف فقرة "تطور الدماغ" بالكامل من مادّة العلوم.