تشرين التحرير وتشرين التصحيح
مرّت، قبل أيام، الذكرى التاسعة والأربعون لحرب تشرين 1973، التي أطلق عليها الإعلام البعثي اسم حرب تشرين "التحريرية"، وأسماها الرئيس المصري أنور السادات آخر الحروب. استنفر الإعلام السوري، بعد تلك الحرب، وصار يصل الليل بالنهار، ويتحدّث عن البطولات، والإرادة، وتحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، والمعجزات التي تحققت بفضل تلاحم الجماهير الكادحة مع قيادتها الحكيمة. وارتدى الجنرال حافظ الأسد ثيابه العسكرية، وأُخذت له صورة تلفزيونية وهو يرفع العلم السوري في سماء القنيطرة المحرّرة. وبعد مضي شهرٍ ونيف، في السادس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني، صادفت الذكرى الثالثة لانقلابه العسكري الذي عرف باسم الحركة التصحيحية، فابتدع الإعلام فكرة جديدة، أن حافظ بطل التشرينين: تشرين التحرير وتشرين التصحيح. هذا كله، والتلفزيون ذو القناتين يعرض مشاهد تلفزيونية تظهر بعض العمليات العسكرية، واحتلال مرصد جبل الشيخ، والسيدة فيروز تغنّي "خَبطة قدمكم ع الأرض هدّارة، إنتوا الأحبة وإنتوا للصدارة"، وعناصر فرقة الدبكة يدبكون، و"يا جبل الشيخ يا قطر الندي، حبيبي بكير لعندك غدي".
لم يكن مهماً، بالنسبة إلى القيادة (السياسية الأمنية الإعلامية) السورية، أن تكون الدبابات الإسرائيلية قد عبرت إلى الطرف الآخر من القناة، وحاصرت الجيش المصري الثالث، وهدّدت بإبادته، وأن الجنرال موشي دايان شنّ هجوماً معاكساً كاسحاً في قطاع جبهتنا الشمالي، وأن اتفاقية فصل القوات التي أعقبت الحرب قد أدت إلى خسارة أراضٍ سورية جديدة، وأن عدداً كبيراً من جنودنا استشهدوا. المهم عند القيادة أمران: أن ينسى السوريون، بمختلف فئاتهم، كتّابهم ومؤرّخيهم، أن صانع انتصارات تشرين، نفسه، كان بطل هزيمة الخامس من حزيران 1967، غير المنازَع، ولعله القائد العسكري الأول والأخير في التاريخ الذي يعطي أوامر الانسحاب الكيفي لقواته قبل بدء القتال! وثانيهما أن اتفاق فصل القوات استتبع وجودَ قواتٍ للأمم المتحدة تفصل بين سورية وإسرائيل، ما يعني، يا أبا الشباب، أن الجبهة السورية أُطفئت أنوارُها، وصار بإمكان "البطل" أن يتفرّغ لترتيب بيته الداخلي، ويؤسّس لدولةٍ تخضع له ولذرّيته، يتوارثونها وكأنها مُلك الذي خَلَّفهم.
صارت حرب تشرين التحريرية محطّة كلام، وبيتاً للقصيد، فقد تضمّنت تمثيلية "عواء الذئب" التي كتبها خالد حمدي كاكا (شقيق الفنان طلحت حمدي)، وأخرجها شكيب غنام سنة 1974، مقطعاً إنشائياً يقول فيه الممثل صلاح قصاص: مية حبل مشنقة ولا يقولوا أبو عمر خاين يا خديجة.. وصارت الصحف المحلية الثلاث: "البعث" و"الثورة" و"تشرين"، تفتح أبواب صفحاتها لكل من هبّ ودبّ من الشعراء النظامين الذين تخلو أشعارهم من أية لمعة إبداعية، وللكتاب الإنشائيين الذين وصلوا الآن، بعد نصف قرن، إلى آخر أعمارهم. والمثل الشعبي الوحيد الذي ينطبق عليهم هو الذي اخترعه عمّي خليل بزارة: "بعمرها والدة الإنسان الجبان ما زغردت".
لم يتوقف المسؤولون السوريون، طوال تلك السنوات، عن مرافقة أي ضيفٍ رسمي يأتي إلى سورية، لزيارة مدينة القنيطرة، التي سمّيت "القنيطرة المحرّرة"، وقد تعمّدت قيادتنا التاريخية الحكيمة أن تتركها من دون إعادة إعمار، لكي يشهد العالم كله على همجية الكيان الصهيوني المجرم. ولكن هذا المبدأ، في الحقيقة، لا يصلح لكل زمان ومكان، فبعد تلك الانتصارات الرهيبة بتسع سنوات فقط، 1982، دمّرت القواتُ الباسلة التي يقودها رفعت الأسد، ثلاث أربع حارات من مدينة حماة، وقتلت أزيد من ثلاثين ألف إنسان، ولم يمضِ على ذلك سوى أشهر قليلة، حتى أقيمت مكانها حاراتٌ جديدةٌ، وصار المسؤولون يضعون لها الحجر الأساس، وتصوّرهم الكاميرات وهم يحملون لافتاتٍ تتغنى بالقائد حافظ الأسد، باني سورية الحديثة.