ترقيع الثورات المضادّة وتطريزها
مرّت سنواتٌ تقترب من ثمانٍ، تشابهت فيها الشعارات وتناسخت وتناسلت، من ليبيا إلى تونس إلى مصر إلى السودان إلى اليمن إلى سورية، نعيش جميعا في كوابيس متشابهة، ودساتير تكتب تحت السلاح، ثم تداس أو يتم تغييرها، وكلنا في انتظار حياةٍ مؤجّلة، ودساتير مؤجّلة وديمقراطية تم خنقها وثورات تم قتلها، كي تتم الموافقة جبرا على بدائل الثورة، بثورةٍ مضادّة، من صنعهم، من الألف إلى الياء، لأننا ما زلنا لا نعرف أسرار الحكم كما كنا نتصوّر كمدنيين، لأن نظرتنا قاصرة كما قالوا، والجيوش هي التي ترى أكثر.
سنوات ثمان، والأيام متشابهة، والآمال متوقفة، والأسلحة فقط لم ينم لها أي سوقٍ على الإطلاق، وعلى المواطنين انتظار النتائج، لأن الجنرال هو الذي يعرف أكثر ويرى أكثر، وله الحق أن "يحدث انقلابا تجريبيا"، من أسبوعين، كما فعل عبد الفتاح البرهان، ثم يؤكّده بالثاني بعد أكثر من أسبوع، بات للانقلابات صدر وعجيزة، وكله في الوقت المعلوم.
باتت الانقلابات العمل السياسي الوحيد والمتاح خلال هذه السنوات، وعلى المعترض الذهاب إلى البحر، أو يبحث له عن بلد آخر أو "يدينا عرض قفاه". على المواطن أن يتوجه إلى الصندوق كي يدلي بصوته، وصوتُه في يد أمينة، فقط نحن نغير الدستور ولا نظلم صوته، وإنْ لم يعجبنا الدستور أو "الوثيقة"، فالانقلاب جاهزٌ في الليل أو "في الدرج"، أشياء عجيبة تتم في عالمنا العربي والعالم من بعيد يشاهد ويضحك منتظرا كامل صيده "انقلاب أول قطفة وقطفة ثانية، وتعالوا نتفق على حل الأزمة"، ولا حل للأزمة، أي أزمة، سوى بالسمع والطاعة لكل ما يريده العسكر، ففي يد العسكر غلق موانئ بورتسودان متى شاءوا، ثم فتحها بلا عنت أيضا. وتلك هي السياسة المتاحة ليلا، وإن جاع الملايين في الخرطوم، وصارت الشوارع بلا خبز، أو أغلق البلطجية وعيال الشوارع الفنادق في مصر وهاجموا المقيمين، ثم يعود الهدوء، والبواخر تعود ولا ترى أطفال الشوارع، والبلطجية يتركون الميدان للجيش، ولا يبقى هناك سوى "ماسحي الأحذية" في فتحات المترو.
نعيش أياما متشابهة في الحيل واللف والدوران وأحكام القضاء وتحايلات المحامين والاعتقالات وسحب جوازات السفر من المعارضين وسحب الجنسيات، كما حدث للرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي، وكما حدث في مصر وكما سيحدث في السودان أو ليبيا أو أي بلد عربي آخر. نحن أمام سيناريوهات متشابهة إلى حد كبير، وأحمد أبو الغيط يذهب بوفد للتهدئة، والوفد لا يقول أي جديد.
مسرحيات باردة متشابهة، وطبخات بايتة ويملك الطباخون التبجّح أمام الكاميرات بدسامة دستوريتها، وكلنا نتفرّج، وصاحب الدبابة يشغّل القاضي والإعلامي والحزب المغلق تحت اسم الوطن أو الأمة، مكيدة لسحب جواز السفر أو الجنسية من الخصوم، أو ضم أموالهم إلى خزينة الدولة أو سجنهم في سجون مليئة بالبط والحمام، ويغنّي لها المطربون بألحان جميلة تشبه "تسلم الأيادي"، والكل جالس ينتظر في بيته النهاية "الملحن وأستاذ الجامعة والكاتب والحزب والمفكر والمترجم والممثل والسينما والمسرح". كل الناس تنتظر رمضان ومسلسلاته، أو قوانين قيس سعيّد، أو تغيير الدستور في مصر كي يتماشى مع مستجدّات العصر، أو قرارات أقرّها البرهان وما زالت في الدرج، بعد ما "فركش" الشريك الدستوري المدني وأودع الوزراء في السجن، وكل يوم يخرج ما يشاء ويفاوض على تمام الاستسلام التام. والمجلس النيابي الليبي هناك يأخذ المشورة القانونية من مصر والجنرال حفتر معه السلاح وسيف الإسلام يتأهب للرئاسة، والبرهان يتكلم عن تجاوز الأزمة ولا يتجاوز "الباريه"، وقيس سعيّد هناك يلقى الخطب، بعد ما أمتلأ قصر قرطاج بالسلام والحمام وفصوص الحكم.
تفطن باريس لألاعيب البرهان فتهدّد بإعادة الديون على السودان. يلبس أبو الغيط البدلة ويذهب إلى البرهان، كي يذكره بالمخاطر "مخاطر الفلوس"، فالفلوس مهمة لشراء السلاح ومهمة كمرتبات ومكافآت للقضاء، فاذا بقيس سعيّد يكتشف "نفقا تحت السفارة الفرنسية"، كي يعدل ماكرون دماغه، ويرسل إليه المرزوقي في قفّة كما تهدّد مصر كل المعارضين في إسطنبول "هنجييبكم يعني هنجيبكم".
كابوس مسرحي نعيش فيه من سنوات، ولا أمل أو حتى بداية أمل، والعسكر يدهم على السلاح، لأنهم يرون أفضل، فما زلت تنقصنا التربية والعلم والمعرفة، وهذا لا يتأتى إلا لضابط يقرأ ذلك كله وهو في التاسعة من عمره إلى الآن، يعني "ستون سنة منه ضاعت في هذه الأمل"، وتأتي أنت كي تأخذه بثورة. طيب يا برنس سنصنع لك ثورات مضادّة على كل لون، وتحمل النتائج والمذابح، وعددها على أصابع يديك ورجليك، وإن لم تصل إلى العدد الكامل فاتصل بجورج قرداحي وصديقه.