تحيّة كبيرة إلى أيمن السالمي

18 مارس 2024

الطبيب العُماني أيمن السالمي مع أطفال في قطاع غزّة (20/2/2024/حسابه في إكس)

+ الخط -

لم يكن ذهاب طبيب الجراحة العُماني، أيمن السالمي، إلى غزّة مغامرة، إنه نداء واجب الطبيب الذي ظل يلحّ في داخله، وهو يرى المجازر التي يرتكبها الصهاينة في أهالي غزّة، خصوصاً الأطفال والنساء. لم يستطع أن يتحمّل وقوفه مكتوف اليديْن، وهو يملك من المهنيّة والعلم الطبي ما سيمكّنه من إسعاف عشرات الحالات ومعالجتها. لم يشأ كذلك أن يكون تفاعله مع الحدث الجلل افتراضياً فقط، عبر التعبير من بعيد كما يحصل لدى الأغلب منّا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو المقالات المتواترة التي تعبّر عن فيض الشعور بالأسى من إبادة شعبٍ صامدٍ تحت نِيْر أعتى احتلال كولونيالي ما زال باقياً، أول  من تخلّى عنه الحكومات العربية قبل أن يتخلّى عنه العالم إلا من رحم ربك من بلدان حرّة كجنوب أفريقيا والبرازيل وتشيلي. 
لم ينقص هذا الشاب شيء، فهو في وظيفة مرموقة، ولديه عائلته مستقرّة من أم وزوجة وأبناء وإخوة. ولكن النداء كان عالياً في ضميره وواخزاً، وهو يرى كل يوم فداحةً لا يضاهيها شيء من جرائم. أياماً ظلت مفتوحة على القتل المجاني العنيف بدون رادع أو خوف من عقاب أو مساءلة. في البداية، تواصل الدكتور أيمن مع منظّمة الصحّة العالمية التي يمكنها أن تسهل له الدخول إلى غزّة عبر معبر رفح. جاءته ردود أولية بالموافقة، ولكن الردّ النهائي ظلّ متأخّراً. لم ينتظره، بل استبق الردّ بالسفر إلى القاهرة من دون أن يخبر أحداً بأن قصدَه غزّة، لا أمه ولا زوجته. كان السفر المعلن إلى مصر. وهناك وصل إليه الردّ من المنظمة المعنيّة، فشد طريقه إلى العريش. حيث التقى أطباء من مختلف أنحاء العالم، حيث سينطلقون إلى غزّة عبر معبر رفح. 
قبل رجوعه، طلب أن تُمدّد إقامته، حيث مكث في المستشفى الأوروبي في غزّة. وكان يُجري  كل يوم أكثر من عشر عملياتٍ جراحيةٍ من التاسعة صباحاً حتى الواحدة ليلاً. صور كثيرة له مع أطفال يمكن مشاهدتها في "غوغل". تحدّث عن حالات ظلّ يبكي أمامها قبل أن يُجري العملية، منها حال طفل كانت إحدى رجليه متفحّمة. قال أيضاً إنه كان مستعدّاً للموت في أي لحظة. كان بمثابة شهيد حي. وقد علمت أمّه لاحقاً أنه في غزّة، ولأن قلب الأم لا يمكنه تقبل أي احتمال ولو ضئيلاً بإصابة ابنها، فما بالك إن كان ذاهباً إلى مكان لا يعرف عنه غير الموت. كان خائفاً أكثر من لحظة الوداع، فهي ربما تكون النهائية. لذلك كان الصمت سلاحاً عملياً في مثل هذه المواقف العالية. 
تحدّث السالمي عن فظائع رآها حيث يُحشر الجرحى وعائلاتهم بالآلاف في أروقة المستشفى، والمستشفيات هناك لم تسلم من آلة القتل الإسرائيلة الساديّة. وكان النوم على أصوات الصواريخ والقذائف بين أطباء وجرّاحين وطلبة طب هدمت جامعتهم. عملياتٌ بلا تخدير مع نقص أكثر الوسائل الطبية بداهة. مرّت عليه حالاتٌ مروّعة من فقء أعين وانشطار أوجه، وما لم يستطع أن يعبر عنه من دون تأثر. قلة الكادر وكثرة المرضى، بل تدفقهم أحياناً بأعداد كبيرة، فيضطر إلى اختيار الحالات الأكثر إلحاحاً. الأدوات غير نظيفة بما يكفي وغير معقّمة كما ينبغي، ولكن الضرورة تستدعي استخدامها. شراشف بلا غسيل وماء  نادر. بين رهان أن يفقد المريض حياته أو يفقد إحدى ساقيه. حين عاد إلى عُمان ظلت روحُه في غزّة، ما زال يتابع مرضاه ويعدهم بالرجوع.
لقد تأكّد عياناً أن القصف الإسرائيلي الجبان لا يستهدف المقاومة، إنما يستهدف البشر. دعوة قاتلة إلى التهجير من منطلق أنه لا أمان لك في هذا المكان، ومن الأسلم لك أن تغادر. سأقتل أهلك وسأقتل ابنك لكي تتألّم وتفكر بعد ذلك في المغادرة. كان الصهاينة يلقون قنابلهم القاتلة في أماكن غريبة على الموت: السوق، على سيارة عابرة، سيارة إسعاف ذاهبة لنقل مصابين. القاصدون لأخذ الطعام والمساعدات، ظنّاً من القتلة أن ذلك سيضطرّ الفلسطيني إلى أن يطلب منهم أن يتركوه يغادر غزّة. ولكن أهل غزّة أبوا المغادرة الطوعية. باقون رغم الموت، لأنهم في وطنهم. 
أسبوعان قضاهما الطبيب العُماني أيمن السالمي في غزّة. تحيّة عالية له، وهو القدوة الذي يستحقّ أعلى التكريمات. "حين رأتني أمّي فجأة بعد الرجوع قالت لي: هات جوازك أشيله عنك".

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي