تحيّة أدونيس للموت الفلسطيني
استُشهد الشاعر الفلسطيني، سليم النّفار، وزوجتُه وبناتُه وابنُه الوحيد وشقيقُه وأختُه وزوجُها وأولادُهما في بناية النصر التي لجأوا إليها في مدينة غزّة... ليس خبرا بلا أشباه، فثمّة، من أعلى شمال بيت حانون إلى أدنى جنوب رفح، في القطاع، بناياتٌ وعمائرُ ومنازلُ وبيوتٌ ومدارسُ (ومراكز إيواء!) تلْقى منذ 70 يوما مثل القصف الذي تعرّضت له بنايه النصر (يا لإسمها الجليل!)، فيقضي فيها فلسطينيون لا تُذاع أسماؤُهم، لأنّ لا حيْثيّات معلومة عنهم. ... تُرى، موتٌ كهذا، كثيرٌ ويوميٌّ ومتروكٌ للقاتل أن يعيّن نهاياته إذا شاء، كيف سيحضُر في أدب العرب؟ الحادثُ في المذبحة هناك، بخيوط المرويّات والمحكيّات، الإنسانية الملحمية المأساوية، الثقيلة على العقل والوجدان، أقوى من المخيّلات والقرائح. ولكن، من قال إن الأدب، أصلا، منشغلٌ، بطبيعتِه وكُنهِه (أرجو احتمال هذه المفردة) بمكاسرةٍ مع الواقع ومنافستِه. هذه قضيةٌ كثيرة التفاصيل. وتحرز موضوعة الموت، في الشعر والسرد العربيين، مساحاتٍ شاسعةً، من منظورات التأمّل والتأسّي، ومن التحديق فيه إلى ما يأخُذُه من الفرديِّ إلى الجماعي، من المجرّد إلى أسئلة الوجود والحياة والانبعاث والخلود، وغيرها. والفلسطينيّ منه تنوّع أيضا وتعدَّد، وتألّقت في شأنه إبداعاتٌ عاليةُ القيمة لا ريب، وابتذلتْه كتاباتٌ غير قليلة أيضا، وهذان شأنان طويلان.
... ليس تزيّدا في كلامٍ تقليديٍّ سائر أن أكتب هنا إن قصيدة "تحيّة للموت الفلسطيني" لأدونيس (نُشرت في العام 2002) تعبُر زمنها إلى غيرِه، إلى اللحظة الراهنة في غزّة وإلى ما بعدها. من مقاطعها "...، يا سيّد الحرب: ها لحمُ أجدادنا/ وآبائنا/ وأبنائنا/ يتفسّخُ في مطبخ الكون، والناسُ في شغلٍ فاكهون./ قل لهم: هكذا/ يرفع القاتلون/ راية القتلِ تيّاهةً عالية". واحدةٌ من مزايا هذه القصيدة أن الموت فيها ليس كالذي ضجّ به شعر أدونيس منذ "قصائد أولى" (1957)، موشوما بإفاداتٍ استعاريةٍ من مرموزات الأساطير وإحالاتها، عن تمّوز والفينيق وأورفيوس، عن الانبعاث والحياة المتجدّدة، عن القيامة والخلود، وما إلى ذلك ممّا أمدّت شعر الشاعر الكبير بمعطياتٍ جماليةٍ، كان يأنس إليها بدافع التجريب والبحث عن لغةٍ أخرى، وفضاءاتٍ أخرى. أظنّها، مؤانساتُه تلك، وإن نقع على سياقٍ أقامت فيه، في طوْرٍ عبر فيه الشعر العربي، سيّما في سورية ولبنان والعراق، نحَت إلى أن تكون مركزيةً لدى أدونيس، حتى أواسط الثمانينيات ربما. ليس الموتُ الفلسطينيُّ الذي خصّه الشاعر الكبير بتلك التحيّة في قصيدته من ذلك النوع من شعره، فالموت هنا موتٌ وحسب، يُحْدثه قاتلٌ وحسب.
"كلّ شيءٍ يقول: وداعا/ لمدائن أيامنا/ لدفاتر أطفالها/ لمحابر أقلامِهم/ لأقلامِهم/ للأسرّةِ مفروشةً بأحلامهم./ ما لوجه الحجر/ بين زيتوننا وشطآنه،/ يتغضّن؟ ماذا؟/ كبد الأبجدية مقروحةٌ؟/ أم أزاميلها/ تتكسّرُ منبوذةً؟ صوتُ نايٍ بعيدٍ/ يتصاعد من جرحنا/ عبقا ضائعا في ثياب الشجر". ... لو جالت أي عيونٍ في الصور التي تتدافع من قطاع غزّة، حيث الجريمة المعلنة هناك، ستُصادف مثل هذه الصور التي رآها أدونيس، في قصيدته، وقال عنها بضمير النحن الفلسطيني. ذلك الناي في القصيدة لعلّه الذي عَزف عليه غزّيٌّ بين أنقاض مبنىً سكنيٍّ دمّره عدوان إسرائيلي، في مخيّم الشابورة في جنوب القطاع، كما رأيناه في الصورة التي طيّرتها وكالة الأناضول في 8 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني). أما كبد الأبجدية المجروحة، فليس من قولٍ عنها سوى إن الجميع استهلك كل مفردات التفجّع والحنق والحزن والغضب، في أيام الحرب التي لمّا تكتمل بعد طالما أن "شحم هذي السماء كثيفٌ، وأزرارُها/ تتفكّك في غابةٍ من شظايا"، على ما بدأت به القصيدة، فليس غير الشظايا تطوفُ في السماء في غزّة الآن، وفي الوُسع أن يسأل واحدُنا سؤالَ أدونيس نفسه في تحيّته للموت الفلسطيني، عن مدن قطاع غزّة (ومخيّماته وبلداته): "مدنٌ، أم مسارح للهول والموت؟ ماذا؟".
قال أدونيس في محاورة صقر أبو فخر له في "حوار مع أدونيس... الطفولة، الشعر، المنفى" (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2000)، إنه يعتقد أنه إذا كان هناك مخرجٌ للعرب من مأزقهم المستعصي فسيأتي عن طريق الفلسطينيين. و"الفلسطينيون اليوم، على الرغم من جميع مشكلاتهم، هم رهانٌ حضاريٌّ وثقافيٌّ من أجل تغيير المجتمع العربي عامّة. أنظر إلى العنصر الفلسطيني بصفته اللقاح الحضاري والثقافي لكل المنطقة العربية. وأرجو أن أكون مصيبا".