تحالف الضرورة بين مصر وتركيا

06 مايو 2024
+ الخط -

يجري التقاربُ بين مصر وتركيا بوتيرةٍ متسارعةٍ، ويقطع أشواطاً بعيدةً في أزمنةٍ قياسية، كما لو أنّ البلدين توصّلا فجأةً إلى قناعةٍ بضرورة إنهاء القطيعة، وعكس مسار العلاقات السالب الذي استمر عقداً، بل والتحوّل سريعاً إلى حالة تنسيق وتعاون وتفاهم، بشأن العلاقات الثنائية، وما هو أكثر أهمّية في القضايا والتطورات الإقليمية.
والدليل على ذلك أنّ أقلّ من شهريْن فصلا بين زيارة الرئيس التركي أردوغان القاهرة واستقباله نظيره المصري عبد الفتاح السيسي هذا الأسبوع. وهو أمر بالغ الدلالة وعميق المغزى، إذ يشهد التاريخ القريب أنّ الخلاف لم يكن فقط بشأن قضايا وسياسات، ولم يقتصر على الحكومتيْن والمؤسّسات والأجهزة في الجانبين، فالمُنطلقات الشخصية وطبيعة القيادة في البلديْن شكّلت جانباً أساسياً في الفجوة بين أنقرة والقاهرة. وأيّاً كانت حدود المرونة أو البراغماتية الشخصية المتوفّرة لدى أردوغان أو السيسي، فإنّ التواصل واللقاء المباشر بينهما لم يكن بالأمر السهل. وتشهد على ذلك المصافحة الأولى بينهما في افتتاح كأس العالم لكرة القدم في قطر 2022. إذ كشفت لُغةُ الجسدِ، في ذلك المشهد التاريخي، عمقَ الفجوةِ، بل ربّما، الكراهيةَ المتبادلة. 
معنى ذلك أنّ المُستجدّات المتلاحقة في الشرق الأوسط والتطوّرات التاريخية التي تشهدها المنطقة كانت من الخطورة بما يكفي لأن تُراجِعَ الدولتان حساباتِهما، وتُدْخِل كلّ منهما الأخرى في تقديراتها لمصادر الاستقواء في مواجهة ما يجري في الإقليم. ولم يكن هذا التقييم ذاته ليتبلور، لو لم تتشابه طرائق ومنطلقات التفكير الاستراتيجي، ومنهجية العقل السياسي، في الدولتيْن.
لا يَعنينَا إذا كان الانطباع الشخصي أو المواقف النفسية لدى الجانبيْن قد تغيّرت حقّاً أو أنّ الاعتبارات السياسية ومسؤولية رجال الدولة هي التي فرضت سطوتها وسيّرت الأمور، خاصّة أنّ تاريخ المنطقة يُشير إلى تلازم المسارات والمصائر دائماً بين مصر وتركيا، سواء في مرحلة الدولة الوطنية أو قبل ذلك في ظلّ الإمبراطوريات الكبيرة، بما فيها الإمبراطورية العثمانية. ليس واقعياً افتراض التطابق التامّ بين الدولتيْن في التقديرات والسياسات. كما ليس من المنطق أن تنقلب الفجوةُ النفسية فجأةً صفاءً وحسنَ نيّات. لكن يجب الانتباه إلى أنّ العلاقات بين الدول تتأثّر بقوّة الدفع الذاتي، فحين تسود الحسابات العقلانية، وينصاع القادة إلى نصائح الأجهزة والمُتخصّصين، فإنّ ذلك بذاته يمنح عجلة تحسين العلاقات زخماً، ويجعل تغيير الواقع السالب أسهلَ في المراحل التالية عمّا كان في البدايات. وبالتالي، فربّما تتراجع وتيرة التحسّن الإيجابي الحالية لاحقاً أو تشهد العلاقات مطبّات تعارضِ مصالحٍ في وقت ما أو تَدَخّل أطراف تتضرّر من ذلك التقارب المُفيد لمصر ولتركيا، معاً. وعلى الأقلّ، الحاصل حالياً إنّ ما يجمع القاهرة وأنقرة أقوى وأكثر مما يفرّقهما. والدولتان من الذكاء بما يكفي لإدراك متطلّبات اللحظة ومُقتضياتها، ثم بعد ذلك لكلّ حادث حديث. فطوال عشر سنوات، جرّبت مصر وتركيا خسائر ومخاطر التحرّكات المُنفَرِدَة. ولحسن الحظّ أنّها مخاطرٌ مشتركةٌ وخسائرُ متشابهةٌ. فكان ما كان من توحّش إيران وتبجّحها في وجه الجميع، حتّى توهّمت أنّها قوّة عُظمى، واِغْتِرار إسرائيل بالتطبيع مع الخليج، وتحضيرات "صفقة القرن"، وكان الخلاف المبالغ فيه بشأن ليبيا وشرق المتوسّط مشحوناً برواسب "الربيع العربي" ونهايته الدرامية في مصر؛ 3 يوليو/ تموز 2013.
حالياً، ثمّة إدراكٌ مشترك بين أنقرة والقاهرة بأنّ عليهما مُهمّة تاريخية لمواجهة التحدّيات المَصيريّة التي أصبحت تُخيّم على المنطقة، وتكاد تعصف بها، وأنّ تعظيم جهود وإمكانات كلّ منهما يتطلّب جمعهما معاً، وتغذية كلّ منهما بقدرات الأخرى وإمكاناتها وأوراق الضغط المتاحة لديها، وهي مُتباينة لكن مُتكاملة. إنّه، إذاً، تحالف الضرورة، الذي فرضته أحداثٌ جسامٌ ورؤيةٌ مُتّسقةٌ للطرفين تجاهها.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.