"بٌرْدَقانة" أو كرة قدم فلسطينية
نَشرت مؤسّسة الدراسات الفلسطينية، قبل أيام، صورةً نادرةً للعبة كرة القدم في ساحةٍ عموميةٍ في باب الساهرة في القدس، التقطها مصوّرٌ مجهولٌ في العام 1902، وذكرت إنها ربما الصورة الأولى من نوعها في فلسطين أو في بلاد الشام. يرتدي اللاعبون الشورت الرياضي، ويعكس لباس المشاهدين المتفرّجين اختلاط أنماطٍ متفاوتةٍ من اللباس الأوروبي الوافد. وإذ لهذه الصورة أهميّتُها الفائقة في تبيّن مقطعٍ من الحياة الاجتماعية والثقافية العامة في فلسطين في بواكير القرن الماضي، فإن لما صنَعه إياد برغوثي (1980) في روايته الأولى "بُرْدَقانة" (دار الآداب، بيروت، 2014)، والتي أنجزها ضمن محترف نجوى بركات، أهميةً موازيةً، عندما عبَر إلى مقطعٍ شبيهٍ، في العام 1946 (وشهورٍ قبلها)، من نافذة كرة القدم الفلسطينية التي أتقن إطلالتَه عليها، لمّا راوغ تمريراتِه بين المتخيّل والحقيقي، بكفاءةٍ ظاهرة. .. مبارياتٌ ومنافساتٌ وتدريباتٌ في اللعبة الشهيرة، ووقائعُ أخرى في دائرة كرة القدم واتحادها الفلسطيني الطامح إلى اعتراف "فيفا" به، ويتواصل في هذا مع الاتحاد المصري، ذلك كلّه يحضُر في سردٍ متتابعٍ من خلال حكي راوٍ عليمٍ عن الثلاثيني فايز غندور، مدرّب فريق نادي عكا الرياضي، والذي يتطلّع إلى أن يتزوّج من خطيبته، وأن يكون له مستقبلٌ لامعٌ في فضاء كرة القدم، سيما عندما يكلّفه الاتحاد الرياضي الفلسطيني بتشكيل منتخبٍ وطنيٍّ يمثّل كل فلسطين. غير أن الرواية في جوهرها ليست في هذا بالضبط، إنها في الحال الفلسطيني العام في لحظة نضالٍ ضد الإنكليز المحتلين، وأمام التباس لحظةٍ مقبلةٍ، وأيضا في مناخٍ يشهد استسهال رمي الخيانة على هذا وذاك، ومنازعات عوائل كبرى على زعاماتٍ ونفوذٍ اجتماعي. تتشابك خيوطٌ من هذا كله في نسيجٍ سردي، تقليديّ المبنى، ويرتبط بما يعيق خطط فوّاز، على صعيديْه، الكروي في شأن تشكيل المنتخب، والشخصي في شأن زواجه من خطيبته، وذلك عندما تنشُر صحيفةٌ خبرا عن "عمالة" والدِه الذي كان قد قُتل قبل أعوام، فيصير "ابن عميلٍ" بعد أن كان بطلا وطنيا في كرة القدم.
استحقّت رواية إياد برغوثي ثناء أعضاء لجنة تحكيم محترف نجوى بركات، فقد لفتوا إلى "المقدرة الأكيدة" في النصّ في التجريب والبحث والخيال، إلى جانب "الطرافة في الابتكار الرمزي لموضوع الرواية". وأميل هنا إلى أن "الركلة" الأقوى التي سدّدها الكاتب كانت في النهايات المفتوحة في مختتم روايته التي تُقفلها، أنتَ القارئ، ومباراة كرة قدمٍ لمّا تنتهِ بعد، "وقف الكابتن فايز على خطوط التماسّ في عزّ اللعبة، في الحد الفاصل بين فوزٍ محتملٍ وخسارةٍ ممكنة". كانت أهداف فريق الناصرة قد هزّت شباك فريق غندور، وكانت الخطيبة قد جاءت إلى الملعب ورآها، وهي التي أوقفت مشروع الزواج بعد شيوع قصّة "عمالة والده" التي تبيّن ضعفُها، وبدا حضور المشجّعين انتصارا لفايز ضد الإشاعة، ووجودَ الخطيبة بينهم إيذانا بانتصارٍ قد يعبُر إليه فايز وفريقه الخاسر، وبدا، من قبلُ ومن بعد، أن هذه النهاية المفتوحة لروايةٍ في غضون لعبة مباراة كرة قدم إيحاءٌ بأن فلسطين ذاهبةٌ إلى انعطافةٍ مفتوحةٍ على مجهول، وأن الهزيمة والانتصار، في غضون ما هو مقبل، مقرونتان بأداء الفلسطينيين الذين كان زعيمهم المفتي (الحاج أمين الحسيني) في أوروبا يُحاول أن يصنع شيئا، وكان المزاج العام في تشوّش ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومغادرة الإنكليز المرتقبة.
تمريراتٌ مقطوعة، وهجمةٌ تلو أخرى، وفريقٌ خاسرٌ فيما "أنت الكابتن ربحت"، على ما يقول سكرتير الاتحاد الرياضي لبطل الرواية فايز غندور، غير أنه رِبحٌ معلّقٌ ربما، جعلنا إياد برغوثي نشتهيه، نتنظرُه، فيما نحن لسنا متأكّدين منه تماما. ولم نكن، ربما، متأكّدين تماما من بُرْدَقانة، ما هي بالضبط، فالذائع إنها في عامياتٍ فلسطينية حبّة البرتقال، غير أنها هنا كرةٌ جلديةٌ من صانع ألماني، تُرافق غندور، اللاعب الذي يطلب من أصدقائه أن يمدحوه، في جلسةٍ في مقهى، بعد فوز فريقه على فريقٍ آخر، هو الذي يهنّئه المغنّي المصري، محمد الكحلاوي، أمام الجمهور، وتقدّم له الراقصة سامية جمال هدية. وذلك كله وفيرٌ في خرائط من هزائم وانكساراتٍ وخيباتٍ كثيرة، خاصة وعامة، تتخلّلها انتصاراتٌ قليلةٌ، متحقّقة، وأخرى ينتظرها الفلسطينيون منذ مباراة كرة القدم في باب الساهرة في القدس قبل 120 عاما، مرورا بأعجابٍ مستحقّ برواية إياد برغوثي، وعبورا إلى رفع أعلام فلسطين في أجواء مونديال قطر 2022.