"بين السطور"... سذاجة الحبّ وطرفة الجريمة

16 مارس 2024
+ الخط -

صدف أنني تابعت، أخيرا، وفي وقت متزامن، مسلسل "بين السطور" (إخراج وائل فهمي، وبطولة صبا مبارك وأحمد فهمي، وهو مأخوذ عن مسلسل كوري يحمل عنوان misty صدر عام 2018) وواحداً من مسلسلات كشف الجرائم الأميركية المشهورة. ورغم أنه لا توجد صلة بينهما، فمسلسل الجرائم يحكي عن فريقٍ يكشف الجرائم، وفي كل حلقة جريمة مختلفة. بينما محور "بين السطور" مذيعة تُتّهم بجريمة قتل يتم الكشف عن مرتكبها في الحلقة الأخيرة. إلا أنني لم أتمكّن من أن أنحّي المقارنة بينهما جانبا؛ ذلك أنه في المسلسلين هناك جريمة وهناك قصص إنسانية وضعف بشري وعقد نفسية واضطرابات سلوكية نفسية، غالبا ما تكون هي الدافع لارتكاب الجريمة، أو هي محرّك للحدث الدرامي في هذا المسلسل أو ذاك.

لا يترُك المحققون في المسلسل الأميركي ثغرةً واحدةً في أي جريمة يحقّقون بها لاكتشاف المجرم، مستخدمين كل ما أنتجه العالم من التقنيات الحديثة في تحليل البصمات واكتشاف الحمض النووي والآثار المختلفة المتروكة في مسرح الجريمة، حتى التي تبدو أنها لا تعني شيئاً، ويضعون الافتراضات المختلفة بشأن طريقة ارتكاب الجريمة، ثم يجري تسليط الضوء على دوافع الجريمة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، وعلى العلل والتشوّهات النفسية المصاب بها المجرم أو المجرمون، وهل هي فردية مكتسبة أم جينية جمعية في عائلة المجرم، ما يستدعي متابعة حالة أطفال العائلة. يرفق ذلك كله بحوار رفيع المستوى عن السلوك العنفي في المجتمعات البشرية وعن علم النفس والفلسفة والعلم والتقنيات الحديثة، من دون إهمال للقصص الإنسانية اليومية لفريق المحقّقين والتركيز على نقاط الضعف في شخصياتهم والتي تترك أثرها أحيانا على تحليلهم للجريمة. باختصار، وجدت نفسي وأنا أتابع هذا المسلسل أمام ما يشبه الموسوعة في علم النفس والقانون ودوافع الجرائم والتحليل المنطقي العقلاني للأحداث، رغم كل المبالغات الأميركية المعهودة.

بينما لا نعرف في مسلسل "بين السطور" لماذا تفعل الشخوص ما تفعله. ما هي، مثلا، الاضطرابات النفسية التي تجعل محمود وجمال وحاتم متعلقين بشكل مرضي بهند بطلة المسلسل؟ ما دور تنشئتهم في الأمر، والثلاثة يُقدّمون لنا أنهم من عائلات من الطبقة المتوسّطة المتعلمة والميسورة الحال. ولا نعرف الدوافع الحقيقية لسلوكهم الساذج تجاه كل ما يتعلق بهند (لم أتمكّن من متابعة المسلسل الكوري الأصلي لأعرف إن كان بالسذاجة نفسها). لا يوجد في المسلسل أي منطق في سيرورة الأحداث، ولا ضرورة وجود الشخصيات وتحوّلاتها، يضع المسلسل جميع شخوصه في ثنائية الخير والشر فقط، وكأن النفس الإنسانية لا تتأرجح غالباً بين البينين، بحيث يبدو سلوك شخصٍ ما، مطلق شخص، محيّرا لفرط اختلاط الخير والشر فيه. أما بخصوص جريمة قتل جمال فهي طرفة المسلسل بحقّ؛ فالمقدّم علاء لا يتبع في محاولة اكتشاف الجريمة سوى حدسه الشخصي الذي يقول له إن هند هي التي ارتكبت الجريمة (يتّضح لاحقا أن لا علاقة لها بالأمر)، لا يحاول اكتشاف البصمات ولا إفراغ محتوى الكاميرات ولا تحليل الآثار الموجودة في مسرح الجريمة، ولا وضعية الجثة.

ثمّة افتراض وحيد يطلقه في وجه جميع من حقّق معهم بينما يتّجه عقله نحو هند فقط. التي يكرهها، بقدر حب الثلاثة لها، من دون أن يشرح لنا صنّاع العمل سبب هذا الكره، سوى الثنائية الأخرى التي يضعها المسلسل إلى جانب الخير والشر: الحب والكراهية. لا يقدّم "بين السطور" أي معلومة مهمة للمتابع، ولا على أي مستوى، لا الثقافي ولا العملي ولا النفسي ولا الاجتماعي ولا حتى المهني الصحافي والقانوني (معظم الشخصيات تعمل في مجالي الإعلام والقانون) ولا الدبلوماسية، فالضحية متجنّس بالجنسية الأميركية، وجاء إلى مصر للمشاركة في بطولةٍ رياضيةٍ ليلعب مع الفريق الأميركي. ومع ذلك، لم نر أي وجود للسفارة الأميركية في التحقيق أو في الإجراءات الأخرى كما يفترض في هذه الحالات.

بقي أن أشير إلى أن مسلسل الجرائم الأميركي منتج قبل عشر سنوات، أي قبل طفرة المنصّات الحديثة بكل ما تملكه من قدرة إنتاجية عالية، ومنها المنصّات العربية التي أنتجت إحداها "بين السطور"، ما يعني أن ذريعة ضعف القيمة الإنتاجية لم تعُد صالحة لتبرير السذاجة والرداءة في المنتج الدرامي العربي.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.