بين الحُبّ والكراهية
يقول المثل الشعبي الأردني، شديد البلاغة، "اللّي بحبّك بياكُلّك الزلط واللّي بيكرهك بستنّاك على الغلط". ولمن لا يعرف، الزلط هو الحصى مستحيل الهضم حُكماً.
يُعبِّر هذا المثل (بشكل عبقري) عن سيكولوجيا البشر المتناقضة، معقّدة التركيب، ويثبت قدرتهم على التكيّف والتلوّن والتحوّل والمراوحة والنسبية، لأن حالة الحُبّ، بحسب علماء النفس، لا تخلو من تدنّي نسبة الذكاء، فتتراجع المدارك العقلية لصالح الانحياز التأكيدي الأعمى، ما يجعلنا مؤهّلين للتغاضي، من دون تردّد، عن خطايا الطرف الآخر، المغفورة بالضرورة مهما بلغت جسامتها، بل نتواطأ، في أحيان كثيرة، ضدّ أنفسنا، ونمرّر الإساءات ونبرّرها، ونتحمّل قبحها، وتكون على قلوبنا أحلى من العسل، رغم مرارتها الجليّة.
فالأم، مثالاً على الحُبّ المتفاني غير المشروط، لا تتوانى عن حماية أبنائها والدفاع عنهم حتى لو ارتكبوا أفدح الأخطاء، فتتصدى للتبرير والإنكار، لأنهم ببساطة أولادها الذين تحبّ أن يكونوا أحسن الناس، يحجب حُبّها لهم قدرتها على الحكم بموضوعية وعقلانية على أيّ من تصرفاتهم، وكذلك تفعل الزوجة المُحبّة لرَجُلها، والحريصة على استقرار بيتها، فتتحمّل من زوجها العابث الحماقات والنزوات والهفوات والتقصير، ملتهمةً له الزلط، غافلةً عن تورّم روحها. ويتعامى العاشق الولهان عن عيوب معشوقته، ويتشبّث بالعلاقة السامّة رعباً من الفقد، وتمسّكاً بمشاعر الحُبّ التي تضع غشاوةً على أبصارنا، وتجعلنا نرى العيوبَ مزاياً.
نصمّ آذاننا عن نصائح الآخرين، ومحاولتهم تنبيهنا لحجم الورطة التي أوقعنا أنفسنا بها، غير مدركين أن الحُبَّ وهمٌ قابلٌ للتبدّد مع مرور الزمن، وطاقةٌ طارئةٌ مُضلِّلة تضعف قدرتنا على التفكير السليم واتخاذ القرارات المناسبة انتصاراً لأنفسنا عند التعرّض للخيانة، أو الاستخفاف، أو سوء المعاملة. غير أننا سرعان ما نقع في مطبّ الاعتياد ونفاد الشغف وزوال التعلّق. تكمن الخطورة حين تأتي لحظة مواجهة التحوّل الحتمية، فتستحيل مشاعر الحُبّ المُفرِط كراهيةً مطلقةً تُخرِج أسوأ ما فينا، حين يتنامى الحقد والغضب، ويصبح الآخر، الذي كان قريباً حميماً، شيطاناً رجيماً نضع تصرّفاته كلّها في مرمى الانتقاد والتشكيك.
يصل كثيرون منّا إلى هذه المرحلة المؤسفة، ما يؤدّي إلى خلل نفسي كبير، وإلى كآبة وإحساس بالخديعة والخذلان، تسيطر علينا مشاعرُ عدائيةٌ، ويطغى عدم التوازن في العلاقات الإنسانية بمختلف مسمّياتها، لأن مشاعر الكراهية مُضلِّلة بمقدار مشاعر الحُبّ، لأن جذرهما واحد، فتجعلنا نضخّم هفواتٍ، ونبالغ في ردّات الفعال، ونخطئ بالضرورة في إطلاق أحكامنا الانفعالية المتسرّعة، ونخسر كثيراً بسبب تحكّم مشاعرنا الهوجاء بنا، وعدم تحكيم مداركنا العقلية في إدارة شكل علاقاتنا الاجتماعية.
الحلّ السحري لهذه المعضلة يكمن في الاعتدال والتوازن والتصالح مع أنفسنا أولاً، وفي إدراك نقاط ضعفنا وأسباب قوّتنا، وفي التحكّم بلحظات الغضب، والتمتّع بالقدرة على الاستماع والتعبير بصراحة وشجاعة عما يدور في دواخلنا من مشاعر سلبية تجاه الآخر، والإقرار بأننا لسنا مثاليين أيضاً، وقد نقع في الخطأ والإساءة إلى الآخَر من دون قصد.
وقديماً قالوا: "العتب على قدر المحبّة". والعتب صابون القلوب، لأنه يغسل الغضب، ويوضّح المُلتبَس، ويقرّب المسافات، وينقذ العلاقات الإنسانية من الدمار، وإذا توفّرت لدى الأطراف شجاعةُ الاعتذار والقدرة على الغفران، فقد تهدأ النفوس وتصفى القلوب وتحلّ المحبّة والاحترام عوضاً عن التناحر، فالحياة قصيرة جدّاً ومن المحزن أن نبدّدها عبثاً في الضغينة، غير أن بعضهم تأخذهم العزّة بالإثم، ويسيطر عليهم العنادُ وضيقُ الأفق، ولعلّهم يستمرئون حالتَي الخصومة والجفاء، إذ يجدون فيهما ذريعةً للقطيعة، لأنهم يفتقرون إلى مهارات التواصل الإنساني البسيط والعفوي والحقيقي. وهذا مؤسف حقّاً!