بيان "فتح" أو انتحار السياسة والحكمة
أسوأ ما في بيان حركة فتح (أو حركة التحرير الفلسطيني بغير إيجاز)، والذي أصدرتْه الجمعة، وحمَل على حركة حماس، بانفعالٍ، وبلغةٍ ينعدم فيها حدٌّ أدنى من الحسّ السياسي، أنه من "فتح" تحديداً، فقد كان الظنّ أن الحركة الوطنية العريضة، والناهضة عقوداً بالمشروع الوطني الفلسطيني، أكثرُ حرصاً على حيّزها الخاص، وأنها تحافظ على مسافةٍ لها، ما أمكن لها أن تفعل، عن مؤسّسة الرئاسة وحاشيتها، وإن يحدُثُ أن تعمل هاتان على استمالة الحركة، أو على استخدامها، إن استطاعتا، في مواسم النكايات والمناوشات الكلامية. ولكن الذي قرأناه في البيان الذي صدر ردّاً على بيان لحركة حماس (ومعها الجهاد الإسلامي والمبادرة الوطنية والجبهة الشعبية)، ينتقد "التفرّد" في تعيين محمّد مصطفى رئيسَ حكومةٍ فلسطينية جديدة، لا يرتدي ثوب رئاسة السلطة الوطنية فقط، وإنما أيضاً تكاد "فتح" فيه تلغي نفسَها، كُرمى عيني محمود عبّاس الذي أنسانا منذ عقديْن أنه رئيس هذه الحركة.
ثاني سوءات البيان أنك إذا قرأتَ القول الباهر الذي أفضت به الفيلسوفة الأميركية اليهودية، جوديث بتلر، قبل أيام، تجده هو بالضبط ما كان على الحركة الرائدة أن تجهَر به، بشأن الذي صنعته "حماس" في 7 أكتوبر. قالت هذه السيدة إن الهجوم الذي دوّى في صباح ذلك اليوم آلمَها، لكنه كان "فعل مقاومةٍ مسلحة، وانتفاضةً نابعةً من حالة القهر". لم تأت الفيلسوفة على الذي اقترفته إسرائيل بعد 7 أكتوبر سبباً لذلك الهجوم، وإنما رأت أفعال إسرائيل قبل ذلك اليوم سببَ الهجوم. وحتى لو بدا مُقنعاً لمن أراد جدلاً وجدالاً أن جرائم الحرب الفظيعة منذ نحو ستّة أشهر لم تكن إسرائيل لتقترفها بهذا التوحّش لولا الذي تعرّضت له في ذلك اليوم، فإن ثمّة فقه الأولويات، وثمّة الاحتراسُ الشديد الوجوب في ظرفٍ شديد الحساسية، والذي كان مفترضاً (أو متوقّعاً؟) من الذين انتَدبوا أنفسَهم لكتابة البيان المستنكَر والمُدان أن يتّصفوا به، فالمنطقُ الذي يتبدّى في الذي سطّره هؤلاء يصلُح لأن يُشهره رؤوس العدوان الحاكمون في دولة الاحتلال أمام الثورة الباهرة في العالم والتي تنتصر للشعب في غزّة، ولعدالة القضية الفلسطينية، شاهداً على أنّ ثمّة طرفاً فلسطينياً "مغامراً" هو من جلب النكبة للناس في القطاع، وعلى العالم أن يصوّب إداناته إليه، وليس إلى الجيش الذي يردُّ على ما تعرّض له مواطنوه في 7 أكتوبر. وليس يُدريك أن تُضمّن دولة الاحتلال في دفوعاتها في محكمة العدل الدولية "منطق" بيان "فتح" هذا الذي في الوسع تكييفُه وتأويلُه بكيفيّةٍ ما للذهاب إلى أنه "يفهم" الذي فعله الجيش الإسرائيلي في غزّة ردّاً على "مغامرةٍ" يلزم أن لا تنسى المحكمةُ من "اتّخذ قراراً" منفرداً بالقيام بها.
سوءٌ ثالث في البيان الذي تتعلّق به هذه الكلمات أنك تقرأ تصريحاتٍ حرصت وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا) على نشرها، (أحدُها لرئيس المجلس الوطني الفلسطيني روحي فتّوح) كانت عاقلةً بعض الشيء، وانصرفت إلى "قانونية" إجراء الرئيس عبّاس تكليف محمّد مصطفى بتشكيل حكومة جديدة، لتأدية مهمّاتٍ حدّدها خطابُ التكليف. ويتّصف "خلافٌ" مع "حماس" (وشقيقاتها)، صدوراً عن هذا المدخل، بشيءٍ من الحكمة، سيما أن الذين طولعت انتقاداتهم تلك في الوكالة الرسمية (نقيب الصحفيين مثلاً) لم ينصرفوا إلى أيّ تشنيعٍ مسيء لحركة حماس، وأبقوا على "أخلاقيّةٍ" ظاهرةٍ في الاشتباك "القانوني" معها، بل انتبهوا أيضاً إلى مهمّات إغاثة الشعب في غزّة وإسعافه، ووجوب توحيد الجهود لإنقاذه وإعادة إعمار القطاع. وبذلك، يصير مُستغرباً أن "تنفرد" حركة فتح بفظاظة اللغة وببؤس المنحى الشتائمي، المبتذَل لا شكّ، تجاه "حماس"، أياماً بعد اجتماع الفصائل الفلكلوري في موسكو.
لأيِّ فلسطينيٍّ كل الحقّ في أن يناقش الصحّ والغلط، وفي أن يلحّ على احتساب الأكلاف والنواتج والمقدّمات والمسارات، بشأن أيِّ فعلٍ مقاومٍ أو مفاوضٍ أو بين هذا وذاك، غير أنه يلزم أن يسبق هذا الحقّ، سيّما من النخب وأصحاب المواقع والحيثيّات، زنة الكلام ومعرفة وجهاته ومؤدّاه، وأي منافع أو مضارّ منه، وأي مواقيت أجْدى له وأوْقع، أي بإيجازٍ أوضح، ثمّة الحكمة وثمّة السياسة، الأوْلى أن يُهتدى بهما، وأن يتقدّما كلّ نقاش. ولا نظنّهم أصحاب البيان الذي ورّطوا "فتح" به استأنسوا بأيّ قسطٍ من أيٍّ منهما، بل عوين انتحارٌ لهما، ونحن نقرأ لهؤلاء يحكون عن "التفرّد" و"التنازلات" و"الأجندات الخارجية"... إلخ.