بعيداً عن "زمش"
في كتابه "الطريق إلى زمش"، يروي الكاتب الكبير، محمود السعدني، قصته المضحكة المبكية، حين فُصل من عمله، ثم اعتقاله بوصفه كادراً شيوعياً مهماً بسبب مصادفة غير محسوبة.
أخبره رجال الأمن الذين اعتقلوه أنه مدعوٌّ لحديث لن يستغرق خمس دقائق، فإذا به يطول ليستغرق خمس سنوات بين أعوام 1959 و1964. وحيث إنه أجاب عن أسئلة المحقق عن التنظيم الذي ينتمي إليه بعبارة "زي ما أنت شايف"، فقد تحوّلت اختصارا إلى تنظيم "زمش".
قرأت الكتاب للمرة الأولى في أثناء دراستي الجامعية، بعواطفي الغاضبة من النظام الاستبدادي الذي عذّب صفوة مثقفي مصر. ولكن حين عدت أخيرا إلى قراءته، كان ما لفتني هذه المرة التأمل في استعراض مسار الحزب الشيوعي المصري الذي صعد إلى القمة ثم ذوى حتى تلاشى.
ضم الحزب نخبة من المثقفين والمناضلين المصريين، لكنه فشل لعوامل بعضُها من خارجه وبعضُها من داخله، أبرزها مجموعة من "الجهّال والصيّع" الذين وصلوا إلى مراتب قيادية في الحزب. يركّز السعدني على من يسميهم "أهل الحنجوري"، أصحاب المصطلحات المعقدة والشعارات البرّاقة المستوردة من الأحزاب الشيوعية السوفييتية والصينية، حتى أن أحدهم سمّاه السعدني "ستالين الواحات"، وكان يتصوّر نفسه فعلا سيقود مصر، وسخّر خمسة من الرفاق للبحث عن أعقاب السجائر "السبارس" لحسابه.
شملت المزايدات الداخلية بعض أكفأ الكوادر، حتى أن المثقف الكبير عبد الرحمن الخميسي تعرّض لاتهام بأنه جاسوس لإدارة سجن أبي زعبل. ولاحقاً ظهر أن بعض الأعلى صوتا كانوا هم أول الخونة، وفي مقدمتهم رئيس اللجنة الأمنية للحزب شخصيا، والذي عقد صفقة لإطلاق سراحه نظير تسليم المخابئ كلها.
أصيب الحزب بأمراض التنظيمات السرية المعهودة. تحوّل التنظيم إلى طائفة، وإلى مرجعية قائمة بذاتها. بعضهم رأى نجيب محفوظ أديبا برجوازيا رجعيا، بينما أديب مصر هو قاص محدود الموهبة لأنه قاص الحزب. وبالمثل، يمكن أن يحل مشكلات مصر الاقتصادية محرّر أخبار اقتصادية مجهول، لأنه ينتمي للحزب الذي انقسم على نفسه مراراً، ولم يبخل الرفاق السابقون على بعضهم بالتسفيه والتخوين.
لم تكن الفكرة الديمقراطية سائدة، بل إن بعض المعتقلين كان يتوعد أنه حين يخرج إلى الحكم سيسحق كل القوى التقدّمية والديمقراطية، حيث دكتاتورية البروليتاريا ستكون بديلاً عن دكتاتورية الرأسمالية. سيتبدل المسجونون لا السجون.
جانب آخر هو الانفصال عن الواقع وغياب المعلومات، حيث كان عديدون من قيادات الحزب لا يقرأون إلا كتبه ومنشوراته، ولا يتلقون المعلومات من خارج مصر إلا من الرفاق العرب، وفي مقدمتهم رئيس الحزب الشيوعي السوري، خالد بكداش، والذي بالغوا في تقديسه إلى حد نقل مقولاته وأحكامه البعيدة تماماً عن مصر.
لم ينجُ محمود السعدني بدوره من الأوهام. يروي إنه لا ينسى أبداً حين أمكنه التحايل لنقله إلى مستشفى الفيوم، ليفاجأ بأن الحياة مستمرة في الشوارع كالمعتاد، بل إن العاملين في المستشفى لا يعرفون عن السجن القريب إلا أنه مكان تجار المخدّرات وظنوا السعدني واحداً منهم. .. يقول إنه أمضى تلك الليلة ساهرا حتى الصباح، يشعر بالإحباط الشديد "لأني كنت أتصوّر أن اعتقالنا يمثل أزمة ولو صغيرة للحكومة، وأن قضيتنا تحتاج لمكان، ولو كان متواضعا، في هموم الشعب".
تنتهي أحداث الكتاب في 1964، فلا تظهر فيه مفارقة أن السعدني نفسه عاد إلى الاجتماع مع كوادر الحزب الشيوعي، لكن هذه المرة داخل التنظيم الطليعي الناصري. إذن، تبنّى الحزب مراجعات بعد قرارات التأميم، وبعد تقارب جمال عبد الناصر مع الاتحاد السوفييتي، ما انتهى إلى حلّ نفسه، وانضم أغلب أعضاؤه للاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي، وهو الذي انضم له السعدني الذي يحسب له أنه كان مقتنعا بما فعل، وأدّى ثباته الناصري إلى اعتقاله على يد أنور السادات مرة أخرى، ثم تعرّض لمرحلة نفي قاسية.
من المهم أن يعرف ممارسو السياسة مكانهم في حلقات التراكم التاريخي، وأن يحاولوا طرح سؤال: أين نحن وإلى أين نذهب؟ لعل تاريخ "زمش" لا يعيد نفسه.