25 اغسطس 2024
بصحبة عبد القادر عبدللي
لم يوافق صديقي الفنان والأديب والمترجم، المرحوم عبد القادر عبدللي، على إعطائي إقراراً بأنني أصبحتُ أتحدث اللغة التركية بشكل جيد. كان قد جاء من أضنة إلى إسطنبول، واسـتأجر شقة مفروشة في نهاية شارع الاستقلال مدة شهر، وأقام فيها مع زوجته السيدة سميرة، بقصد أن يُجَرّب الإقامة هنا، والتواصل مع المثقفين السوريين والأتراك؛ فإذا راقَ له الجو، وتوفرت له فرصة عملٍ يغطي من خلالها نفقات الإقامة، سينتقل مع الأسرة إلى إسطنبول، بشكل نهائي.
غاب عنا، بعد هذه التجربة، شهراً، ثم جاء، واستأجر الشقة نفسها، فكان ذلك مدعاة لسرورنا، وأنا سررت أكثر، لأنه من أصدقاء عمري. في أول مرة بعد قدومه، ذهبت لأسهر في شارع الاستقلال مع بعض الأصدقاء. اتصلتُ به ودعوته للانضمام إلينا، فاعتذر قائلاً إن مفصل رجله يؤلمه، إلى درجة أنه لا يستطيع المشي، ولا حتى بمساعدة العكاز.. المهم، كان ألمُ المفصل بدايةً لانتكاساتٍ مرضيةٍ كبيرة ومتسارعة، وعمليات جراحية، ومعالجة كيميائية وأشعة، وإجراءات طبية دامت ثلاثة أشهر فقط، ومات، فخسرته الثقافتان، العربية والتركية، وحركةُ الفن التشكيلي السوري، رحمه الله.
كنا نزوره، في شقته، قبل تَفَاقُم المرض، وبمعدل مرتين في الأسبوع تقريباً. وفي إحدى الجلسات، مازحتُه قائلاً: أنا، يا أبو خيرو، أصبحتُ أجيدُ التركية، والحمد لله، وبما أنك معلم المعلمين في الترجمة، برصيد ثمانين كتاباً وبضعة مسلسلات، وأنك أولُ من عَرَّفَنا على نور ومهند ووادي الذئاب، أرجو أن تشهد بإتقاني التركية أمام هؤلاء الأوادم. أشاح بوجهه في الاتجاه الآخر، ولم يرد. قلت له: أنت الآن مريض، وتحت شدّة، وستقابل وجه الله تعالى، وفي مثل حالتك على الإنسان أن يُخَلِّص من ذمته ويقول الحق، ألستُ ممن يجيدون التركية قراءة وكتابة ومحادثة؟ لم يرد. قلت: ثم إن إتقاني اللغة التركية لا بد أن يصب في مصلحتك، فأنت الآن في طور الاستشفاء، ولَعَلَّكَ باشرتَ بترجمة رواية لأورهان باموق، أو ديوان شعري ليونس إمرة، والعمل يحتاج إلى إكمال، أنا أكمله ريثما تشفى وتنهض لتتابع أعمالك.. وبقيت أتحدث معه بهذه الطريقة، حتى ضحك، وهو، في الأحوال العادية، قلما يضحك.
الحقيقة أن المرحوم عبد القادر لم يكن على حق في امتناعه عن مجاملتي، ولو بكلمتين، فهو يعلم أن أن أستاذنا الأديب الكبير حسيب كيالي لو كان بيننا لقال إن تَعَلُّم خطيب بدلة اللغةَ التركية أصعبُ من إدخال الحَطَب في القطرميز. ففي الأيام الأولى لمحاولتي تعلم التركية، كنت ألفظُ الجملة مثل الأرمن حينما يتكلمون اللهجة الحلبية، وأسأل عبد القادر (Doğru mu?)، فيقول لي بنترة: غلط. وأحياناً كان يقول لي "غلط" قبل أن أسأله! وأحياناً يزيد في القصيد بيتين، فيقرعني لارتكابي الخطأ. فمرة أردت أن أقول لنادل المقهى: من فضلك، فقلت (BEKER MİSİN)، وسألتُ عبد القادر متباهياً: شلون؟ لا تقل لي غلط. فقال لي: طبعاً غلط، فلقد سألتَ النادل: أنتَ أعزب؟
حينما كنتُ أقع في مأزق التفاهم مع شخص تركي، كنت أتصل بعبد القادر هاتفياً، وأشرح له القضية، وأعطي التلفون للشخص التركي فيتفاهم معه، ثم يعود إليَّ لينقل لي الجواب، وأحياناً، من شدة العبطة، كنت أتصل به وأقول له: خذ إحكي. فيقول للرجل أعدني لخطيب، فيعطيني التلفون فيقول لي: يا أخي أمرك غريب، أنا كيف سأعرف ماذا تريد أنت من الرجل؟
فيما بعد، سجلتُ في دورةٍ لتعلم اللغة التركية، وتعلمتُ بضع جمل صحيحة، ووقتها اتصلت بعبد القادر، وقلت له: يا أبو الخير أنا تعلمتُ التركية، وأنت لَكَ عليَّ الكثير، فإذا وقعتَ ذات مرة في مأزق مع رجل تركي ولم تستطع التفاهم معه اتصل بي، وأنا جاهز.
رحمه الله، قال: طيب. ولم يضحك.
غاب عنا، بعد هذه التجربة، شهراً، ثم جاء، واستأجر الشقة نفسها، فكان ذلك مدعاة لسرورنا، وأنا سررت أكثر، لأنه من أصدقاء عمري. في أول مرة بعد قدومه، ذهبت لأسهر في شارع الاستقلال مع بعض الأصدقاء. اتصلتُ به ودعوته للانضمام إلينا، فاعتذر قائلاً إن مفصل رجله يؤلمه، إلى درجة أنه لا يستطيع المشي، ولا حتى بمساعدة العكاز.. المهم، كان ألمُ المفصل بدايةً لانتكاساتٍ مرضيةٍ كبيرة ومتسارعة، وعمليات جراحية، ومعالجة كيميائية وأشعة، وإجراءات طبية دامت ثلاثة أشهر فقط، ومات، فخسرته الثقافتان، العربية والتركية، وحركةُ الفن التشكيلي السوري، رحمه الله.
كنا نزوره، في شقته، قبل تَفَاقُم المرض، وبمعدل مرتين في الأسبوع تقريباً. وفي إحدى الجلسات، مازحتُه قائلاً: أنا، يا أبو خيرو، أصبحتُ أجيدُ التركية، والحمد لله، وبما أنك معلم المعلمين في الترجمة، برصيد ثمانين كتاباً وبضعة مسلسلات، وأنك أولُ من عَرَّفَنا على نور ومهند ووادي الذئاب، أرجو أن تشهد بإتقاني التركية أمام هؤلاء الأوادم. أشاح بوجهه في الاتجاه الآخر، ولم يرد. قلت له: أنت الآن مريض، وتحت شدّة، وستقابل وجه الله تعالى، وفي مثل حالتك على الإنسان أن يُخَلِّص من ذمته ويقول الحق، ألستُ ممن يجيدون التركية قراءة وكتابة ومحادثة؟ لم يرد. قلت: ثم إن إتقاني اللغة التركية لا بد أن يصب في مصلحتك، فأنت الآن في طور الاستشفاء، ولَعَلَّكَ باشرتَ بترجمة رواية لأورهان باموق، أو ديوان شعري ليونس إمرة، والعمل يحتاج إلى إكمال، أنا أكمله ريثما تشفى وتنهض لتتابع أعمالك.. وبقيت أتحدث معه بهذه الطريقة، حتى ضحك، وهو، في الأحوال العادية، قلما يضحك.
الحقيقة أن المرحوم عبد القادر لم يكن على حق في امتناعه عن مجاملتي، ولو بكلمتين، فهو يعلم أن أن أستاذنا الأديب الكبير حسيب كيالي لو كان بيننا لقال إن تَعَلُّم خطيب بدلة اللغةَ التركية أصعبُ من إدخال الحَطَب في القطرميز. ففي الأيام الأولى لمحاولتي تعلم التركية، كنت ألفظُ الجملة مثل الأرمن حينما يتكلمون اللهجة الحلبية، وأسأل عبد القادر (Doğru mu?)، فيقول لي بنترة: غلط. وأحياناً كان يقول لي "غلط" قبل أن أسأله! وأحياناً يزيد في القصيد بيتين، فيقرعني لارتكابي الخطأ. فمرة أردت أن أقول لنادل المقهى: من فضلك، فقلت (BEKER MİSİN)، وسألتُ عبد القادر متباهياً: شلون؟ لا تقل لي غلط. فقال لي: طبعاً غلط، فلقد سألتَ النادل: أنتَ أعزب؟
حينما كنتُ أقع في مأزق التفاهم مع شخص تركي، كنت أتصل بعبد القادر هاتفياً، وأشرح له القضية، وأعطي التلفون للشخص التركي فيتفاهم معه، ثم يعود إليَّ لينقل لي الجواب، وأحياناً، من شدة العبطة، كنت أتصل به وأقول له: خذ إحكي. فيقول للرجل أعدني لخطيب، فيعطيني التلفون فيقول لي: يا أخي أمرك غريب، أنا كيف سأعرف ماذا تريد أنت من الرجل؟
فيما بعد، سجلتُ في دورةٍ لتعلم اللغة التركية، وتعلمتُ بضع جمل صحيحة، ووقتها اتصلت بعبد القادر، وقلت له: يا أبو الخير أنا تعلمتُ التركية، وأنت لَكَ عليَّ الكثير، فإذا وقعتَ ذات مرة في مأزق مع رجل تركي ولم تستطع التفاهم معه اتصل بي، وأنا جاهز.
رحمه الله، قال: طيب. ولم يضحك.