11 نوفمبر 2024
برهان غليون.. المثقف والسياسة
تعريفات المثقف وأدواره كثيرة، وثمّة عتاد مفاهيمي بشأنها، في منجز الاجتماع السياسي الغربي، وفي مساهماتٍ عربية مقدّرة، وإذا كان المعهود (أو الموضة؟)، إلى وقت قريب، هو الذهاب، في بحث هذه القضايا، إلى ماكس فيبر وغرامشي وسارتر وغيرهم، فثمّة إضافات عربية وازنة، قدّمت اجتهادات لها مكانتها النظرية والتحليلية في هذا الباب وحواشيه، وفي الوسع أن يُشار إلى محمد عابد الجابري وعبد الله العروي وإدوارد سعيد، أمثلةً، وفي العقد الأخير، إلى عزمي بشارة، خصوصاً في تعيينه التمايزات (النظرية والعملية) بين مثقف الدولة ومثقف السلطة، وبين المثقف الثوري والمثقف الإصلاحي، وبين المثقف العضوي والمثقف العمومي. ومناسبة التأشير، الشديد الإيجاز (والإخلال ربما؟) إلى هذه المسألة هنا، إعلان المفكر برهان غليون، الأسبوع الماضي، "تحرّره" من التزاماته في السياسة اليومية، وعودته إلى "موقعه الطبيعي.. مثقفاً ومفكراً حرّاً ومستقلاً، ليس له التزام سياسي وأخلاقي، إلا باتجاه شعب سورية العظيم".
ويمكن حسبان انخراط صاحب "بيان من أجل الديمقراطية" (1976) في تفاصيل العمل السياسي اليومي في المعارضة السورية، قبل رئاسته المجلس الوطني السوري في 2011 وبعدها، حالةً مثاليةً لمعاينةٍ عمليةٍ لتلك التعريفات والمفاهيم الخاصة بالمثقف ووظائفه، وقد عبرت تجربة غليون إلى مختلف التمايزات بين هذه كلها، منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث حافظ على خياره مناهضاً للاستبداد، ولكن من دون اشتباك في فعلٍ سياسي مباشر ضد النظام الحاكم في سورية، مروراً بجهده الأكاديمي والثقافي عن حاجة الشعوب العربية إلى التخلّص من الدكتاتوريات، بتنويعاتها السياسية والاجتماعية، ومروراً أيضاً بقوله، في الأيام الأولى للهبّة السورية، إنه لا يمانع في قيادة بشار الأسد مساراً إصلاحياً، وصولاً إلى اشتباكه في عمل سياسيٍ وميدانيٍ مشهود في نصرة الثورة السورية التي طالبته جماهيرُها، في مظاهراتٍ مبكرة، بدور قيادي. ثم صرنا نرى أستاذ علم الاجتماع السياسي في "السوربون" يحاور سيرغي لافروف في موسكو وهيلاري كلينتون في واشنطن وألن جوبيه في باريس ونبيل العربي في القاهرة، وغيرهم من سياسيين أجانب وعرب في مواقع رسمية. ورأينا صاحب "مجتمع النخبة" (1986) في إدلب بين الثوار السوريين المسلحين، وطالعنا، في مقالاته وتصريحاته، مطالباته بدعم نوعي للعمل المسلح ضد نظام القهر الحاكم في دمشق.
يوضح برهان غليون أنه، في إعلانه الجديد، لا يتحرّر من العمل السياسي، وكأن العمل السياسي خطيئة، وإنما من "الواجبات والأعمال التنفيذية، من أجل التفرّغ لمهام أكبر تتعلّق بصراع الأفكار والرؤى والخطط والاستراتيجيات، ..". ويوضح أن العمل السياسي الذي يقوم به هو "من موقع المثقف النقدي والمفكر الحر"، ما يعني "الابتعاد عن النزاعات والمشاحنات والمعارك الجانبية، في سبيل تكريس وقتٍ أكبر للمسائل الأساسية والمراجعات الضرورية". وللحق، اشتملت مقالات (السياسي) برهان غليون في "العربي الجديد"، ومحاضراته، على مضامين نقدية وانتقادية صريحة، لمظاهر عوار غير قليلة في الثورة السورية، وللأداء العام لقوى المعارضة. ولعلّها مقادير غزيرة من الضجر والإنهاك الذهني قد أصابت أستاذنا، وهو في أتون نشاطه في اجتماعات "الائتلاف" و"المجلس الوطني"، وغيرهما، دفعته إلى قوله "اقتربت من السياسة بمقدار ما كانت السياسة أخلاقاً ومبادئ، وهذا ما جسّدته الثورة أعظم تجسيد، لكنني لا أستطيع أن أتحمّلها، عندما تتحوّل إلى مساوماتٍ وتسوياتٍ وحرتقات، هذه ليست هويتي".
نُمازح صديقنا، هنا، ونستهجن مفاجأته هذه، فالبديهي أن وجه السياسة في عالمنا العربي الزاهر هو هذا، ولم تكن يوماً غير ذلك، زاولتها الحكومات أو المعارضات. ولكن، بجديّة مضاعفة، نخبره، هنا، إنه أوفى كثيراً شعبه السوري، بكل ما في وسعه، لمّا كان في غير "موقعه الطبيعي"، وأن عطاءَه، بعد عودته المعلنة إلى موقعه، سيظل ثميناً، كما ظلَّ دائماً. مع دعوة المختصين بدرس المثقف العربي إلى تشريح برهان غليون نموذجاً خاصاً.
ويمكن حسبان انخراط صاحب "بيان من أجل الديمقراطية" (1976) في تفاصيل العمل السياسي اليومي في المعارضة السورية، قبل رئاسته المجلس الوطني السوري في 2011 وبعدها، حالةً مثاليةً لمعاينةٍ عمليةٍ لتلك التعريفات والمفاهيم الخاصة بالمثقف ووظائفه، وقد عبرت تجربة غليون إلى مختلف التمايزات بين هذه كلها، منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث حافظ على خياره مناهضاً للاستبداد، ولكن من دون اشتباك في فعلٍ سياسي مباشر ضد النظام الحاكم في سورية، مروراً بجهده الأكاديمي والثقافي عن حاجة الشعوب العربية إلى التخلّص من الدكتاتوريات، بتنويعاتها السياسية والاجتماعية، ومروراً أيضاً بقوله، في الأيام الأولى للهبّة السورية، إنه لا يمانع في قيادة بشار الأسد مساراً إصلاحياً، وصولاً إلى اشتباكه في عمل سياسيٍ وميدانيٍ مشهود في نصرة الثورة السورية التي طالبته جماهيرُها، في مظاهراتٍ مبكرة، بدور قيادي. ثم صرنا نرى أستاذ علم الاجتماع السياسي في "السوربون" يحاور سيرغي لافروف في موسكو وهيلاري كلينتون في واشنطن وألن جوبيه في باريس ونبيل العربي في القاهرة، وغيرهم من سياسيين أجانب وعرب في مواقع رسمية. ورأينا صاحب "مجتمع النخبة" (1986) في إدلب بين الثوار السوريين المسلحين، وطالعنا، في مقالاته وتصريحاته، مطالباته بدعم نوعي للعمل المسلح ضد نظام القهر الحاكم في دمشق.
يوضح برهان غليون أنه، في إعلانه الجديد، لا يتحرّر من العمل السياسي، وكأن العمل السياسي خطيئة، وإنما من "الواجبات والأعمال التنفيذية، من أجل التفرّغ لمهام أكبر تتعلّق بصراع الأفكار والرؤى والخطط والاستراتيجيات، ..". ويوضح أن العمل السياسي الذي يقوم به هو "من موقع المثقف النقدي والمفكر الحر"، ما يعني "الابتعاد عن النزاعات والمشاحنات والمعارك الجانبية، في سبيل تكريس وقتٍ أكبر للمسائل الأساسية والمراجعات الضرورية". وللحق، اشتملت مقالات (السياسي) برهان غليون في "العربي الجديد"، ومحاضراته، على مضامين نقدية وانتقادية صريحة، لمظاهر عوار غير قليلة في الثورة السورية، وللأداء العام لقوى المعارضة. ولعلّها مقادير غزيرة من الضجر والإنهاك الذهني قد أصابت أستاذنا، وهو في أتون نشاطه في اجتماعات "الائتلاف" و"المجلس الوطني"، وغيرهما، دفعته إلى قوله "اقتربت من السياسة بمقدار ما كانت السياسة أخلاقاً ومبادئ، وهذا ما جسّدته الثورة أعظم تجسيد، لكنني لا أستطيع أن أتحمّلها، عندما تتحوّل إلى مساوماتٍ وتسوياتٍ وحرتقات، هذه ليست هويتي".
نُمازح صديقنا، هنا، ونستهجن مفاجأته هذه، فالبديهي أن وجه السياسة في عالمنا العربي الزاهر هو هذا، ولم تكن يوماً غير ذلك، زاولتها الحكومات أو المعارضات. ولكن، بجديّة مضاعفة، نخبره، هنا، إنه أوفى كثيراً شعبه السوري، بكل ما في وسعه، لمّا كان في غير "موقعه الطبيعي"، وأن عطاءَه، بعد عودته المعلنة إلى موقعه، سيظل ثميناً، كما ظلَّ دائماً. مع دعوة المختصين بدرس المثقف العربي إلى تشريح برهان غليون نموذجاً خاصاً.