بخّاخ لقتل البشر

28 مايو 2022

(محمد العامري)

+ الخط -

قبل أيام، كنت أجلس مع صديقٍ في مكان مفتوح في أحد النوادي المصرية، حين دار حديثٌ بيننا عن علبة بخّاخ تسمّى "أوف" موجودة على الطاولة التي نجلس عليها، ومخصّصة للاستخدام البشري على الجسم كطارد للناموس الذي يوجد بكثافة، حيث كنا، وفي كل الأمكنة المفتوحة، خصوصا في فضل الصيف والحر. كان حديثنا حول التركيبة الكيميائية لهذا البخّاخ، وهل سيترك أثرا سلبيا على الجلد، واستعنّا طبعا بالعم "غوغل" لتبيان المعلومة المطلوبة، والذي أكّد لنا أن المواد الكيميائية المستخدمة في البخاخات المشابهة مضرّة، فطالما هي قادرة على طرد وقتل الحشرات فهي حتما مضرّة بالبشر، وبرأي "غوغل" أن الاعتماد على المواد والزيوت الطبيعية هو أفضل وأكثر أمانا، فبدأنا نرش المادة إياها على البعوض أملا في قتله والتخلّص من وجوده.

أخدنا الحديث والحالة إلى ذكريات قديمة لكلّ منا مع البيئة التي قدم منها، فأنا مثلا ابنة ريف جبلي، رغم أن عائلتي انتقلت باكرا إلى المدينة، لكننا كنا نقضي إجازاتنا وعطلنا في القرية التي كانت غالبية بيوتها مبنيةً من الطين، وبجانب البيوت حظيرة للحيوانات والمواشي. وطبعا هذا مع الزرع والشجر سيجعل من الناموس والبعوض من تفاصيل البيئة، يتشارك مع البشر وباقي الكائنات الحياة المساحة. لا أتذكّر أننا كنا نشتكي من وجود البعوض والناموس في تلك الفترة، ولا حتى من الحشرات التي تتكاثر بوجود المواشي، بل أكثر من ذلك، أتذكّر ذات ليلةٍ، كنا نجتمع، وكنا في نهاية الطفولة، في بيت إحدى عمّاتي نلعب الورق على ضوء فانوس الكاز، إذ لم تكن الكهرباء قد وصلت بعد إلى قريتنا، حين شاهدت عقربا يمشي على الحائط، بالقرب من ظهر أخي الأكبر، أتذكّر أنني أشرت إلى العقرب، وأن أحد أبناء عمومتي نهض ووضعه في جاروف صغير وأخذه إلى الخارج، لم نسأل ماذا فعل به بل تابعنا اللعب، كما لو أن شيئا لم يحدث. أتذكّر أيضا رؤيتنا الأفاعي بين الزرع أو سقوط الأفاعي الصغيرة علينا من سقف غرفة الطين والخشب، كان تعامل البشر عموما مع الكائنات التي تشاركه الحياة تعاملا أكثر لطفا وقبولا وتسامحا، وكأن المفردات البسيطة التي كانت متوفرة للحياة كان فيها من البراح ما يكفي لأن تتعايش جميع الكائنات بمودّة وقبول، وأن تتشارك المساحة المتاحة ضمن نظام بيئي وبيولوجي يعتمد على التعايش الحيوي.

لكن ذلك سرعان ما بدأ يختفي لتحلّ معه قسوة بشرية واستعلاء على باقي الكائنات، بدأت هذه القسوة مع دخول الحضارة والحداثة إلى حياة البشر، الكهرباء والطرق المعبّدة والأسمنت والحديد لبناء منازل مصمتة تعزل البشر عن باقي الكائنات، كمن يبني جدار فصل عنصري بينه وبين الآخرين. هذا التطور( الحضاري) عزّز إحساس الملكية لدى البشر، بامتلاكِه ما يستفيد منه دونا عن باقي الكائنات الأخرى، بامتلاكه ما يجعله يرى "عظمته" أمام تواضع باقي الكائنات، وبامتلاكه عناصر القوة ومفرداتها، وهي المعادلة التي غيّرت من معادلة التوازن البيئي اللازمة للحفاظ على كوكب الأرض سليما وصالحا للعيش.

إحساس الملكية المتنامي أنهى مساحة القبول والتعايش بين البشر والمخلوقات الأخرى، لم نعد نحتمل الحشرات، وصارت الزواحف أعداءنا، ولم نعد نطيق رائحة المواشي فأبعدناها عن أماكن عيشنا، وكأننا مع استبدال مفردات الطبيعة التي كنا نصنع منها بيوتنا: الطين والخشب والقش، بمنتجات حضرية حديثة بنينا فيها بيوتا كبيرة وواسعة وعالية، ضاقت مساحة القبول والمودّة لباقي المخلوقات داخلنا، كما ضاقت مساحة الامتنان، وصرنا نطالب بالمزيد الذي يعزّز تفوقنا وقوتنا، ويمعن في كراهيتنا واستعلائنا على باقي المخلوقات والكائنات، حتى وصلنا إلى استعلاء بعضنا على بعض أيضا، فأمعنّا في الحروب والصراعات واستعراضات القوة، حتى أصبح كوكب الأرض مريضا، وشيئا فشيئا بدأ يفقد صلاحيته للعيش فيه.

قلت لصديقي، وأنا أفتح علبة "الأوف"، لأطرد الناموس عن جلدي: تخيّل أن يخترعوا بخاخ "أوف" سريع المفعول لطرد البشر وقتلهم خلال ثوان، كـأن تكون جالسا مع أحد ما، ويسلك سلوكا لا يعجبك، فتفتح علبة البخّاخ وتصوّبها إليه، فيختفي مباشرة. هذا ما نفعله الآن بكل عجرفتنا مع الحشرات. الفارق فقط أن الكائن البشري هشّ رغم جبروته. يمكن أن يفنى بسهولة، بينما هذه الكائنات بالغة الصغر يتمتع جهازها الحيوي بذكاء نادر، يجعله مقاوما لكل أنواع الفناء والانقراض. وفي النهاية، سوف ترث هذه الكائنات الكوكب الذي ندمّره نحن، وربما ستعيد إحياءه على طريقتها الخاصة.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.