بانتظار الارتطام
يعيش لبنان حالة سقوط حرٍّ إلى هاويةٍ يبدو أن لا قعر لها، خصوصاً في ظل انسداد كل آفاق الحلول السياسية والاقتصادية، بفعل الخلافات السياسية التي لم تفلح الأزمة الخانقة التي تعيشها البلاد في تحييدها عن مسار المحاصصات الطائفية والمذهبية الضيقة. الجميع اليوم يترّقب شكل الارتطام المقبل، ليتم على أساسه البحث عن طريقة لن تكون سهلة للصعود من جديد، في حال كان ذلك ممكناً.
قد يأخذ هذا الارتطام أشكالاً مختلفة، من الممكن أن يكون أقربها الاتفاق على تشكيل حكومة إنقاذية. وعلى الرغم من أن حكومةً كهذه لن تحمل حلولاً سحرية للوضع المتردي، إلا أنها ستعطي الأطراف الدولية التي لا تزال راغبة في مساعدة لبنان بعض الثقة في استقرار المسار السياسي في البلاد، وبالتالي القدرة على اتخاذ خطواتٍ اقتصادية، من الممكن أن تكون قاسية، لتصحيح الاعوجاج الاقتصادي الذي بدأ قبل عقود من اليوم.
غير أن هذا الارتطام لا يبدو قريباً، فالخلاف السياسي الطائفي المذهبي بات أكثر تعقيداً من السابق، خصوصاً أن هناك مخاوف من تبعات شعبية لأي قرارات اقتصادية من الممكن أن تلجأ إليها الحكومة العتيدة، خصوصاً من قبيل رفع الدعم كلياً، وهو ما بات شبه حاصلٍ في الواقع، أو تحرير سعر صرف الليرة رسمياً، ما قد يقفز بالدولار إلى مستويات أعلى مما هي عليه اليوم. وبالتالي من الواضح أنه إضافة إلى حالة الانقسام السياسي، هناك نوع من التهرب من تحمل مسؤولية ما قد تؤول إليه الأمور في حال تنفيذ طلبات المجتمع الدولي، ولا سيما صندوق النقد، لمساعدة لبنان.
نوع آخر من الارتطام قد يكون على شكل فلتان أمني يتدحرج إلى ما يشبه حرباً أهلية، وهو ما بدأنا نشهد ملامحه في أكثر من منطقة، خصوصاً ما حدث في طرابلس (شمالي لبنان) في الأيام الأخيرة من مواجهات بين المحتجين والقوى الأمنية تطورت إلى استخدام الأسلحة. الأمر قد يتجه إلى مزيد من الفلتان الأمني، مع زيادة الاحتقان بين المواطنين ذوي الدخل المحدود، والذين ربما يلجؤون إلى عمليات سلب ونهب لتأمين قوت يومهم، وهو ما بدأ فعلياً يحصل، لكن لا يزال على نطاق ضيق.
تصاعد الفلتان الأمني من المحتمل أن يدفع إلى تدخل دولي، وحتى ربما فرض وصاية على لبنان، وخصوصاً أن الأزمة الاقتصادية اللبنانية صنفت على أنها ثالث أكبر أزمة في العالم. مثل هذه الوصاية هي حالياً شبه قائمة، مع تسليم الملف اللبناني إلى فرنسا التي بدأت تتحدث عن فرض عقوبات على المسؤولين اللبنانيين في إطار الضغط عليهم للاتفاق على تشكيل الحكومة. غير أن هذا الحديث لم يؤد إلى تحرك مساعي تشكيل الحكومة قيد أنملة، بل على العكس زاد من حدة الانقسام القائمة اليوم، ولا سيما بين رئيسي الجمهورية ميشال عون والنواب نبيه برّي.
إعلان الإفلاس قد يكون شكل ثالث من الارتطامات المرتقبة في لبنان. هو إفلاس قائم فعلياً غير أنه لم يعلن رسمياً بعد، فالدولة أعلنت عجزها قبل فترة عن سداد الديون، وهي تجاهد لتأمين الاعتمادات لاستيراد المحروقات أو الغذاء من الخارج، وهو ما فاقم أزمات الكهرباء والوقود والدواء، وخلق طوابير من المواطنين عند منافذ البيع لتأمين احتياجاتهم. الإفلاس أيضاً سيخلق نوعاً من الوصاية من المؤسسات المالية الدولية، لكن هذه الوصاية تترقب شريكاً تنفيذياً غير موجود.
أمام سيناريوهات كهذه، يبدو أن السقوط الحر للبنان سيستمر، وتداعياته ستكون كبيرة على اللبنانيين الذين بات جزء كبير منهم تحت خط الفقر، والباقي ينتظر دوره مع التهام المصارف ودائع من يعرفون بأنهم أبناء "الطبقة الوسطى" الآيلة للاختفاء حالياً.