املأ الفراغ

13 اغسطس 2022
+ الخط -

كان صاحبنا على يقين أنّ الجملة مستوفية الشروط بمبتدئها وخبرها، فلماذا الإصرار على الحشو "الزائد"؟ تساءل وهو يمسك القلم بعصبية بالغة، وأعاد قراءة الجملة: "المبتدأ: "غارة جوية على قطاع غزة تستهدف مقاومًا فلسطينيًّا، وتوقع عددًا من الشهداء والجرحى، بينهم أطفال". وأما الخبر فكان: "المقاومة الفلسطينية تردّ الصاع صاعين، وتمطر المستوطنات والمدن الإسرائيلية بمئات القذائف الصاروخية، وتتوعّد بالمزيد".

أليست الجملة مكتملة؟ فلماذا إذاً يطلب مني أن أحشو الفراغ بالجمل الآتية: "جامعة الدول العربية تدين العدوان على غزة وتحذر من تبعات التصعيد (...)"، "وزارة الخارجية التونسية تستنكر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المحاصر(...)"، "اعتبرت الخارجية الجزائرية أن الغارات الإسرائيلية خرق واضح وجليّ لجميع المواثيق والقرارات الدولية ذات الصلة (...)"، "من جانبه دعا الأردن إلى ضرورة الوقف الفوري للعدوان الإسرائيلي المدان على قطاع غزة (...)"، "بدورها، دانت منظمة التعاون الإسلامي، بشدة، العدوان العسكري الغاشم (...)".

فكّر طويلًا قبل أن يستوقفه ذلك الفراغ (...) مرّة أخرى، وشعر بضرورة المحاولة، فمن الواضح أن السؤال لم يأتِ عبثاً، ولا بد من "حكمة" وراءه.

استقام في جلسته، وراح يعيد القراءة: "الجامعة العربية تدين (...)". ترى ما أنسب كلمة "محترمة" لملء الفراغ؟ هرش رأسه وهو يمعن التفكير إلى أن اهتدى إلى كلمةٍ ظنّ أنها تليق بجلال الإدانة، وكانت "شكرًا". لكن عندما أعاد قراءة الجملة مكتملة، وجد نشازًا غريبًا، فمسح "شكرًا"، ووضع بعدها كلمة "نهيق"، وكرّر قراءة الجملة مكتملة، فقفز من مكانه احتفالًا؛ لأنّ العبارة أصبحت منسجمة تمامًا.

ثمّ راح ينسج على المنوال ذاته، بوضع كلمات مرادفة لكلمة "نهيق" في مؤخرة الجمل الأخرى، على غرار "ثغاء"، "مواء"، "قلة حياء.."، ولم ينس استخدام كلمة "هراء"، سيما بعد كل عبارة عن "مناشدة جميع الأطراف ضبط النفس"، التي تعني حكمًا مساواة الجلاد بالضحية.

وكان يمكن للأمر أن ينتهي عند هذا الحدّ، لولا أن صاحبنا تورّط بإعادة قراءة الجمل السابقة ثانية، فشعر بألم شديد في بطنه، في موضع "الزائدة الدودية" تمامًا، وشعر بضرورة اتخاذ إجراءٍ عاجل، قبل أن يتفاقم الموقف، فما كان منه إلّا أن مزّق الورقة المكتظّة بتلك الإدانات، والتنديدات، والاستنكارات، موقنًا أنها ليست أزيد من "زوائد" هي الأخرى، لا تضيف إلى متن المبتدأ والخبر أيّ معنى، بل على العكس كانت كفيلة بإفساد العبارة التي تستمدّ كمالها من صواريخ المقاومة، ومن الكرامة التي يحملها أولئك المقاومون الأشاوس.

والغريب أنّه شعر بارتياح تام بعد تمزيق الورقة، واستئصال زوائدها، ليعود الخبر إلى ما كان عليه منذ البداية، وأعاد التساؤل: إذا كان ردّ المقاومة ساطعًا إلى هذا الحدّ، فلماذا تقحم فيه ردود أفعال المقيمين في ملاجئ العجزة من أمة العرب؟ هل تضيف الإدانة دفعًا إضافيًّا إلى قذيفة الهاون المنطلقة من غزة، أم تمنع غارة همجية صهيونية على غزّة؟ المؤكّد أنّها لا تفعل، لكن إن شئنا الدقة، فهي تضيف إلى "المبتدأ" زخمًا جديدًا بجعل العدوان أبشع إيذاء؛ لأن إسرائيل تزداد طمأنينة، بمثل هذا الركام من الإدانات، عندما تدرك تمامًا الحدود القصوى لقوة "الردع العربية".

وضع القلم جانباً، وهو يزفر بارتياح، كمن تخلّص من كلّ "زوائد" الدنيا، وراح يتسلّى بخريطة للوطن العربيّ كانت ملقاة إلى جانبه؛ لكن العصبية سرعان ما عاودته، عندما فوجئ بأن الخريطة فارغة تمامًا، وليس ثمة أسماء للبلدان العربية عليها، فشعر بعقدة "الفراغ" تطارده ثانية.

هرش رأسه طويلاً، وتساءل عن السبب من دون أن يعثر على إجابةٍ مقنعة، إذ كيف تختفي البلدان العربية عن الخريطة؟ شعر بمسؤولية قومية تلحّ عليه بضرورة "ملء الفراغ" في الخريطة، فأمسك القلم وراح يحاول تذكّر أسماء البلدان العربية ليعيدها إلى مواضعها .. لكنّه عجز تماماً عن تذكّر أيّ شيء، فقد كان رأسه "فارغًا" تمامًا.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.