امتداد المقاومة...

29 اغسطس 2014

قوات احتلال ألمانية في باريس في ديسمبر 1942

+ الخط -

في الحرب العالمية الثانية، كانت الجيوش الألمانية تجتاح مساحاتٍ واسعةً من أوروبا بسرعة كبيرة، وتُواجه بمقاومة ضعيفة. ابتلعت الجيوش الألمانية بولندا لقمة سائغة، ودمرت خط ماجينو الفرنسي بسهولة، وتقدمت حتى رقص هتلر في باريس، أما روسيا، في بداية الحرب، فقد كانت الدبابات الألمانية لا تحتاج إلا إلى الوقود، لعبور أراضيها والاقتراب.
نقل الألمان هذا التقدم إلى أماكن خارج البر الأوروبي، فحاصروا الجزر البريطانية، وقصفوا لندن بالطائرات والصواريخ، بثت الغواصات الألمانية الرعب في بحر الشمال والمحيط الأطلسي. أصبح رومل (القائد العسكري الألماني الشهير) في ليبيا ينوي الهجوم على مصر والوصول إلى السويس والاقتراب من منابع النفط. بدا في لحظةٍ ما، في بداية الحرب، أن تقدم الآلة العسكرية الألمانية لا يمكن وقفه، بدا أن النازية ستحسم المصير السياسي إلى أجل غير معلوم. كانت الحكومات الموالية لهتلر، مثل حكومة فيجي في باريس المحتلة، تتشكل، وكان الرايخ الألماني مزهواً بانتصاراته. كثيرون خسروا أمام ألمانيا في السنوات الأولى للحرب، بعضهم خسر بالمواجهة العسكرية المباشرة، وآخرون خسروا بالرعب، الرعب من ألمانيا التي لا تُقهر.
لا يُمكن إغفال الانقلاب الذي حصل في مسار الحرب، عندما قررت الولايات المتحدة الخروج من عزلتها، ورمي ثقلها في الحرب. لكن، لا يُمكن، أيضاً، تهميش حضور المقاومات الوطنية ودورها، حين أخذت تنهش جسم الاحتلال الألماني، وتسدد له الضربات وتحرمه من إقامةٍ مريحة على ترابها الوطني. كان هناك رعب انتشار في أوروبا من ألمانيا، وكان إطلاق المقاومة يحتاج إلى شجاعة استثنائية. كانت كل رصاصة توجّه إلى رأس جندي ألماني تعني كسراً للرعب المخيم على أوروبا، وكانت كل قذيفة تصيب آلية ألمانية تُضيف إلى المقاومات الوطنية شجاعة إضافية.
كان خبر تحالف تشرشل مع الولايات المتحدة خبراً مهماً ومدوياً في ذلك الوقت، وضربة لطموح هتلر. بينما لم تكن المقاومة ضد هتلر والنازية خبراً بالحجم ذاته، كانت جذوة نار صغيرة هنا وهناك، كانت حالة صغيرة تتراكم، لتسهم في الخبر الكبير، خبر هزيمة ألمانيا في الحرب.
على الأراضي الروسية وبعد الانتصارات الألمانية الأولى الكاسحة، واجه الألمان ما يشبه الحرب الشعبية، كان "الجنرال ثلج" إلى جانب الروس، كانت أراضي روسيا الواسعة مقبرة للألمان، وعلى أسوار ستالينغراد ولينينغراد، تم وقف التقدم الألماني، وبدأ الهجوم المعاكس. كان الروس يقاتلون بما تيسر، كانت مكاسب المقاومة الروسية المعنوية تتزايد بقدر تقهقر الألمان. أما في فرنسا، وبعد تدمير ماجينو – خط الدفاع الفرنسي – واحتلال باريس، أعلن شارل ديغول من لندن أن "فرنسا حرة" وأننا سنقاوم، كانت عمليات المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني لا تتوقف. أما في بولندا، فقد كانت المقاومة البولندية ضد الاحتلال الألماني الضامن لعدم محو بولندا من الخريطة.
ماذا لو لم يطلب تشرشل من روزفلت العون؟ ماذا لو لم يكن هناك تدخل أميركي في الحرب وإنزال في النورماندي؟
لا يمكن الإجابة على سؤال تاريخي افتراضي كهذا. لكن، الأكيد أن الرصاص سيظل يستهدف رأس جندي الاحتلال. هذا الرصاص كان قليلاً متردداً في بداية الحرب، لكنه ازداد مع مرور الوقت. لم تكن هذه المقاومة تعي المآلات النهائية والدقيقة والأكيدة للمواجهة مع الاحتلال الألماني، لكنها كانت تعي أنها يجب أن تفعل ذلك.
وإذا ما ذهبنا إلى محطاتٍ في تاريخنا العربي، لوجدنا أن العالم يذكر بإكبار كبير ثورة الجزائريين الخالدة ضد الاستعمار الفرنسي، لكن هذا العالم، بالكاد، يذكر تلك السهولة التي استطاعت بها الأساطيل البحرية الفرنسية الإنزال على سواحل الجزائر واحتلالها. ربما كان الوصول الفرنسي إلى الجزائر سهلاً، لكن "فرنسة الجزائر" لم تكن سهلة. وبين الوصول إلى الجزائر والخروج منها كانت المقاومة الجزائرية تبدأ صغيرة، كاعتذارٍ خجول عمّا حدث، لكنها تزداد قوة، كانت الشجاعة تنتقل من الفدائيين الأوائل إلى أجيال تالية من الفدائيين والمقاومين.
من بين الروس والفرنسيين الذين قاوموا الاحتلال الألماني، ومن بين الجزائريين الذين قاوموا الاحتلال الفرنسي، كانت هناك قلة قليلة، فدائية وشجاعة، تحاول قدح الشرارة الأولى في نار المقاومة على الاحتلال. تبدأ هذه النار صغيرة خائفة. لكنها تمتد وتنتصر.

 

7DCBCDF9-9B50-4782-AA8C-FEDA3F7106B7
نايف السلمي

مهندس صناعي وكاتب سعودي مهتم بالفكر و الثقافة في الوطن العربي، ومؤلف مشارك في كتاب "في معنى العروبة .. مفاهيم و تحديات".