الواضح في غموض واقعة مصياف
تفاصيل كثيرة انفرد بنشرها موقع إكسيسوس الأميركي وتلفزيون سوريا عن ضرباتٍ جويةٍ إسرائيلية، على مصنع صواريخ أرض أرض دقيقة متوسّطة المدى، أنشأه ويشرف عليه الحرس الثوري الإيراني، ومراكز أخرى حسّاسة، بينها مركز أبحاث علمي، في مصياف في ريف حماة. وتتوفّر هذه التفاصيل على وقائع شديدة الإثارة، تصلح للإفادة منها لإنجاز فيلم شائقٍ عن ثلاث ساعاتٍ أذاع الموقع والتلفزيون (وغيرهما) أن إنزالاً جوياً تخلّلها، شاركت فيه خمس مروحيّات، فواكبت القصفَ العنيف عمليةٌ برّيةٌ في اشتباكاتٍ، لم يتسرّب نبأ عن جريح أو قتيل إسرائيلي سقط فيها، بل طيّرت الأنباء مقتل 18 وإصابة 30، سوريين مدنيين وعسكريين وإيرانيين وعناصر من حزب الله. وإذا صحّ قليلٌ من الكثير الذي نشر عن تلك العملية الإسرائيلية، ذات الفرادة العسكرية والاستخبارية، فإنه كافٍ للتدليل على صحّة قول من يقول، مجدّداً، إن الانكشاف الإيراني في سورية أمام إسرائيل مريع، ويتوازى مع الذي يرتفع في الداخل الإيراني إلى منزلة الفضيحة، فبعد صيد علماء مرموقين في البرنامج النووي، جاء اغتيال ضيف الرئاسة الإيرانية الجديدة، إسماعيل هنيّة، ليلة 31 يوليو/ تموز الماضي، ليعزّز هذا الانطباع.
لم تأتِ أيٌّ من مصادر رسمية، سورية أو إيرانية أو إسرائيلية، على أيٍّ من التفاصيل المثيرة للعملية العسكرية الإسرائيلية، الأولى من نوعها (منذ سنوات)، كما أنها لم تنف ما شاع بصددها، وآثرت وكالة أنباء النظام في دمشق الإتيان على إدانة الاتحاد البرلماني العربي العدوان الإسرائيلي "الغاشم" على منطقة مصياف (هكذا)، ساعاتٍ بعد أن أخطرتنا الوكالة نفسها بأنهم مواطنون من أسفر هذا العدوان عن استشهادهم وجرحهم. أما المصادر الرسمية في طهران فقد اعتصمت بالصمت، واكتفت بنفي أسر إيرانييْن في الموقع. والمؤدّى من هذا أمران: أولهما أن الجموح الإسرائيلي في استباحة الأراضي السورية، وكل ما عليها من إمكانات عسكرية، برّية وجوية وبحرية، سورية وإيرانية، وفي أي موقع، لا يكبُحه رادع، وأن من الميسور على جنرالات الجيش والاستخبارات في دولة الاحتلال أن يخطّطوا وأن يستطلعوا وأن ينفّذوا ما يُراد أن تطاوله مناظير عسكرهم وبساطيرهم ومروحياتهم وصواريخهم في البراح السوري. ثانيهما أن في وسع اليد الإسرائيلية الطولى أن تصل إلى ما هناك من منشآتٍ ومقارّ إيرانية؛ مثل مصنع للصواريخ أو قنصلية.
لا يريد المسؤولون الإيرانيون الرفيعون أن يتوقّفوا عن وعيد دولة الاحتلال بالانتقام من قتلها "الضيف العزيز" (بوصف علي خامنئي)، إسماعيل هنيّة، في عملية استخبارية نوعية هي الأخرى، فهذا قائد الحرس الثوري، حسن سلامي، يقول، الأسبوع الماضي، إن بلادَه ستنتقم بنفسها وبشكلٍ مؤلم، وكان الظن أن الموضوع كله طويت صفحته، بعد أزيد من 45 يوماً على الجريمة المشهودة. ولئن ليس مطلوباً من أصحاب القرار في طهران أن يُبلغونا بشيء عن موعد الانتقام الذي تحدّثوا عنه وشكله، فإن المطلوب منهم، بعد واقعة مصياف، أن يتواضعوا بعض الشيء، ويعرفوا أن ملايين قرأوا تفاصيل العملية العسكرية الإسرائيلية الفريدة باعتبارها استخفافاً بأي ردٍّ ينتقم من قتل القائد الفلسطيني في أثناء ضيافته في طهران، وأنها تنمّ عن عدم اكتراثٍ بالشجرة العالية التي صعد إليها الطاقم الحاكم في الجمهورية الإسلامية، نزلوا عنها أم أبقوا أنفسَهم هناك.
الواضح في الغموض الغريب في ليلة مصياف المهولة، بإنزال برّي لقوات كوماندوز خاصّة أو بغيره، أن الغارات الخمس عشرة التي انضرب بها مصنع الصواريخ ذاك ومنشآت مجاورة، وعلى أربع مراحل، تُنبئ أن إسرائيل ماضيةٌ في تحطيم صورة إيران عن نفسها. والمؤسف، لنا، نحن التوّاقين إلى وجود قوى إقليمية في المنطقة تحسِب لها دولة الاحتلال الباغية جساباً، أنه ليس في المُعاين قدّامنا ما يؤشّر إلى مختتمٍ محتملٍ لهذه الفوقية الإسرائيلية المتمادية على إيران، المستضعَفة والمستهدفَة بيسرٍ بالغٍ في سورية، والمقدور أن يُقتل فيها ضيف الرئاسة في طهران نفسها، إسماعيل هنيّة.