"الهري" في مصر

16 يناير 2023

(رباب نمر)

+ الخط -

يتبنّى الحكام المتسلطون دائماً خطاباً متعالياً على شعوبهم، ويوجّهون لها اتهامات زائفة وأوصافاً سيئة مُختلقة. ومن الخصائص الأصيلة للديكتاتورية أن يتنصّل الحكّام من أخطائهم بتصديرها إلى الشعوب، فيحمّلون المواطنين البسطاء مسؤولية فشل السياسات وإخفاق القرارات، التي غالباً ما تُفاقم مآزق الدولة وتعمّق معاناة الشعب.
قبل أيام، وجّه من يتمترس على قمة السلطة في مصر اتهامات حادّة إلى المصريين بالمسؤولية عن تردّي الوضع الحالي في مصر، من خلال "ما قاموا به عام 2011" حسب تعبيره. لكن من دون إشارة إلى أنه من كان ولا يزال يدير الدولة خلال ثمانية أعوام على الأقل بعد 2011. وإمعاناً في حالة الإنكار المفتعلة، راح عبد الفتاح السيسي، الذي أعلن قبلاً أنه يحتكر المعرفة اللانهائية والحكمة المطلقة، يجلد المصريين بسبب كثرة الجدل والنقاش، وطالبهم بالتوقّف عن ذلك "الهري"، حسب وصفه. 
ربما يعتبر بعضهم أن تلك الاتهامات والصفات التي استخدمها السيسي لانتقاد المصريين مجرد زلّة لسان، غير أن عشرات من خطاباته المرتجلة، التي وجهها طوال السنوات الماضية إلى المصريين، جسّدت نزعة تسلطية وإدراكاً نرجسياً للذات متعالياً على الآخرين، بدءاً من وصف نفسه بفيلسوف الفلاسفة والتشبه بالأنبياء، قائلاً "ففهمناها سليمان"، وانتهاء باتهام المصريين بالجهل والغباء، حين قال "الناس لا فاهمة ولا عارفة..". وبين هذه وتلك، طالب السيسي المصريين بألا يسمعوا كلام أحد غيره. 
ومع تفاقم أزمات الاقتصاد المصري وتوالي القرارات الحكومية الخاطئة التي زادت أوضاع المصريين سوءاً وتدهوراً، امتلأت وسائط التواصل الاجتماعي بجدلٍ واسعٍ وأشكالٍ متنوعة من التفاعل المجتمعي، شملت السخرية من الخطاب الرسمي والتبريرات الإعلامية الساذجة، مع الغضب الشديد والتذمّر من موجات الغلاء المتتالية، فنهى السيسي المصريين عن ذلك الحراك الكلامي، بأن أمرهم في بثّ مباشر "بطّلو هري". وهو يستخدم توصيف "الهري" في اللهجة المصرية الدارجة تعبيراً عن السفسطة والإصرار على الجدل بغير علم وكثرة الكلام غير المفيد، الذي يُربك المستمع، ويضيع الحقائق ويشتت المعلومات، فيخرج أي حوار فيه "هري" بلا جديد ولا فائدة. والمعنى مشابه لما ورد في القول المأثور "فسّر الماء بعد الجهد بالماء".
وبدلاً من الإجابة عن تساؤلات المصريين وتقديم ما يهدئ قلقهم من المستقبل، يعتبر السيسي أنهم لا يأتون بجديد من وراء الجدل، وهم لا يعرفون الحقيقة، ولا يعلمون مدى الجهد الذي تبذله الحكومة. وكان قد ذكر، في وقت سابق، أنه وحده الذي يعلم كيف يعمل الوزراء والمسؤولون بكل جد وبأقصى جهد. وليست هذه المرّة الأولى التي يستخدم فيها السيسي هذا التعبير الدارج، فقد سبق له توجيه الطلب نفسه إلى المصريين بالصيغة نفسها. وفي المقابل، يعتبر مصريون كثيرون أن الحكومة، أو بالأدق السلطة في مصر، هي التي "تهري" بقراراتها العشوائية غير المدروسة، بدليل تكرار التراجع عن عدد منها. 
ورغم أن الأسوأ من التراجع عن القرارات الخاطئة هو التمادي فيها، تُصرّ السلطة المصرية، التي يحدّد السيسي حركتها ويحتكر قراراتها، على اتباع السياسات نفسها التي وضعت مصر على قائمة الدول المهددة بالإفلاس. ووضعت معظم الشعب المصري تحت خط الفقر. كما ينطبق وصف "الهري" الكاذب أيضاً على الخطاب الإعلامي المخاتل الذي تتبنّاه أذرع إعلامية لا تكتفي بتأييد التوجهات الرسمية، أو حتى ترويجها، بل تزايد عليها، فتعتبر السلطة ومن يترأسها نعمةً من الله على مصر.
ليس "هري" المصريين كلاماً في الفراغ، وإنما هو تفريغ لطاقة غضبٍ وتنفيس لاحتقان يغلي في الصدور. وهو حيلة الضعفاء للرد على "هري" السلطة المتمثل في هدر الفرص وتضييع الحقوق وإدمان الفشل، فعلاً لا قولاً. وهو الهري الحقيقي الذي لا جدوى منه ولا فائدة، سوى مزيد من الخراب والدمار لمصر والمصريين.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.