النّمس والدّبس وإسرائيل

27 اغسطس 2022
+ الخط -

قبل الحديث عن غضب وكلاء السياحة الأردنيين على إنشاء مطار رامون الصهيوني في إيلات، لمنافسة مطار عمّان في نقل المسافرين الفلسطينيين إلى تركيا، لا بدّ من المرور سريعًا على حكاية "النّمس والدّبس".

تروي الحكاية أن أحد المحتالين، بعد أن استنفد كل حيله القديمة في ابتزاز أهل قريته، ابتكر فرضية غريبة من نوعها، قوامها إمكانية الحصول على دبس التمر من مؤخرة النمس، استنادًا إلى بيت شعر للمتنبي يقول: "تُريدينَ لُقيانَ المَعَالي رَخيصَةً/ وَلا بُدّ دونَ الشّهدِ من إبَرِ النّحلِ". فقال في نفسه: "ما دام المتنبي قرَنَ الحصول على الشهد بتحمّل لسع النحل، وما دامت القرية لا تتوفّر على النحل والشهد أصلًا، فلا شيء أقرب من النمس إلى النحل، بأشواكه اللاسعة لتحقيق المراد". وساعده في ذلك أن النّموس كانت متوفرة في القرية بكثرة، بل وتسبّب إزعاجًا كبيرًا للأهالي، فرأى أن "يحوّل التحدّي إلى فرص"، وهي العبارة التي كانت كثيرًا ما تتردّد على ألسنة أعيان القرية ووجهائها لتخدير شعب القرية الذي يعاني ضروبًا غفيرة من صنوف الفقر والحرمان.

ولتعزيز فرضيته في عيون أهل القرية، اقتنى المحتال نمسًا، وراح يروّج أن في استطاعته استخلاص الدبس من مؤخّرة النمس، شرط الانتظار الطويل لتحقيق النتيجة المشتهاة، فصدّق أهل القرية الخدعة، وراحوا يساومون المحتال على ثمن النمس الباهظ، غير أنهم اضطرّوا، في خاتمة المطاف، إلى الإذعان لشروطه، وجمعوا ثمن النمس من دراهمهم الزهيدة.

ولأن المشروع "مشترك"، والخير سيعمّ على الجميع، فقد وضعوا النمس في ساحة القرية، وأحاطوه بسياج من الأسلاك، وتوزّعوا مناوبات الانتظار بينهم، فكانت الجماعة المناوبة تتحلّق ساعاتٍ حول السياج تراقب النمس، وتنتظر خروج الدبس من مؤخرته، ومع كل جولة إخراج، يسارعون لجمع "الغلال"، ثم يكتشفون أنه لم يكن أزيد من "براز"، فيعودون منكّسي الرؤوس إلى مواقعهم، ويستأنفون الانتظار، إلى حين تسلّم الجماعة الثانية مناوبتها.

وبالنسبة إلى المحتال الذي فرّ بالمال، يقال إنه سافر بعيدًا هذه المرّة، ليعرض بضاعة جديدة على شعوبٍ أخرى لديها قابلية للخداع، فلم يجد أفضل من بضاعة "السلام" ليبيعها إلى هذه الشعوب، ومنهم بالطبع الشعب الأردني، الذي بيعت له اتفاقية وادي عربة قبل نحو عشرين عامًا، بوصفها صنبور "الدّبس" الذي سيغتسلون فيه صباح مساء، وما عليهم إلا أن يهيئوا المواعين فقط.

وفي مسوّغات التسويق، أيضًا، قيل إن من شأن الاتفاقية أن تنعش اقتصاد البلد، وتحلّ معضلة الفقر والبطالة، وتسهم في جلب الاستثمارات الخارجية. .. ولئن كان القسم الأكبر من الشعب رفض الاتفاقية من مبتدئها إلى خبرها، فإن البقية الطامحة إلى "الدبس"، راحت تتحلّق حول النمس زرافاتٍ ووحدانًا، والكلّ ينتظر حصّته المشتهاة، ومنهم بعض التّجار والصناعيين وأرباب السياحة، وكلّما ومض بريق الدبس من بعيد، هرعوا إليه، ليكتشفوا أنه لم يكن غير براز عفن، فبعض الصناعيين الذين دخلوا في شراكات مع نظراء إسرائيليين، اكتشفوا أن المستفيد الأكبر كانت إسرائيل من هذه الشراكات، وكذا بالنسبة للتجار. وأما الشعب فتفاقمت معاناته مع الفقر والبطالة.

كانت إسرائيل الرابح الوحيد من اتفاقية السلام مع الأردن، وجديد أرباحها أخيرا مطار رامون، الذي سيسحب البساط من تحت أقدام عشرات مكاتب السياحة والسفر التي كانت تستفيد من سفر الفلسطينيين إلى تركيا عبر مطار الملكة علياء في عمّان، وهو ما سيفاقم من معاناتها، سيّما وأنها خرجت للتوّ من معاناة أخرى أشدّ وطأة مع إغلاقات كورونا.

بإشكالية "النمس والدبس" وحدها يمكن فهم الخديعة الكبرى التي تعرّض لها الأردنيون، ومعهم عرب سابقون ولاحقون، وهي الإشكالية التي فهمها الفلسطينيون قبل غيرهم، عندما اخترعوا مثلهم المعروف: "يا طالب الدبس من مؤخرة النَّمس، يِحرَم عَلِيك ذُوقة العَسَل"، لكونهم أكثر من تعرّض للمطل والخطل من محتلّهم. وينسحب الأمر على كلّ من لا يزال ينتظر من إسرائيل الدبس.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.