النساء والمونديال

28 نوفمبر 2022

مكسيكية تشجع منتخب بلادها ضد الأرجنتين في استاد لوسيل في مونديال قطر (26/11/2022/Getty)

+ الخط -

يستكثر بعضٌ من  جمهور الرجال على المرأة اهتمامها بلعبة كرة القدم وانخراطها الراهن في تفاصيل (وجماليات) عالم المونديال التي تجري أحداثه حاليا في قطر، بل ويرون في الأمر تطاولا وتجاوزا جندريا وخروجا سافرا عن النمط المكرّس في أذهانهم ومزاحمة لهم في منطقة اهتمامهم التي يفترضونها ذكوريةً محضة محرّرة لا مكان للسيدات فيها، بل ويذهب بعضهم بعيدا، ويصنّف المرأة المهتمة في شؤون الكرة فاقدة للأنوثة، متشبّهة بالرجال، وفي أحسن الأحوال مجرد وجه جميل تُظهره بين حين وآخر الكاميرات التي تبث للعالم مباريات كرة القدم حامية الوطيس، وهم مقتنعون، من دون مسوّغ، أن المرأة هنا مدّعية، وأنها، في واقع الأمر، تمقت كرة القدم، لشعورها بالغيرة تجاه كل ما يمكن أن يستحوذ على تفكير الرجل لأنها مخلوق أناني في الحب، تحرص على أن  تظل مستأثرة بحب رجلها واهتمامه بعيدا عن تشويش الكرة وصخبها، ويفترضون بها الاهتمام بمتابعة المسلسلات التركية الطويلة، وكذلك التخلي بدون شروط عن الريموت كونترول والانسحاب بخفّة وهدوء عند موعد المباراة المرتقبة بعد إعداد ما يلزم للسهرة من مشروبات ساخنه وباردة وبوشار ومكسّرات، وأرجيلة في أحيان كثيرة.
هذا طرحٌ ساذجٌ قائم على التنميط والتعميم والحكم السطحي المسبق على الأشياء تكذّبه الوقائع، فالملاعب مكتظة بمشجّعات بلادهن ممن حصلن على إجازات وتكبدن أعباء السفر وتحملن النفقات وابتعدن عن عائلاتهن إرضاء لرغبتهن في الوجود في الملاعب، لأنهن، ببساطة، يعشقن اللعبة، ويدركن سحرها وفنونها، ويمارسن حقّهن في المشاركة بهذا الحدث الكوني العظيم. كما تحضر المرأة في مونديال قطر حكما متمرّسا يرهب جانبها اللاعبون، خشية أن تبرز في وجوههم البطاقات الصفراء والحمراء. كما لاحظنا حضورها في فرق المنظّمين عنصرا فاعلا حريصا على ضبط النظام والسهر على راحة الجمهور. وتكتظ المقاهي والنوادي بالمتفرّجات من عاشقات الكرة، يتفاعلن، يغضبن، ويفرحن، ويحزنّ، ويبدين آراء فنية عميقة ودقيقة في مستوى اللعبة. وبهذا هن لا يختلفن عن الرجال في تلقّيهن وفي ردود أفعالهن، وتشارك النساء رجالهن المتبرّمين في البيوت متابعة المباريات بالشغف ذاته، وبعيدا عن التقسيمات الجامدة البائسة، فإن كرة القدم بالنسبة للجماهير الحاشدة من كلا الجنسين من أكثر الألعاب متعة وجماهيرية، وتتساوى فيها المشاعر والانفعالات التي تتملكّهم عند مشاهدة مباراة ما بين الإحباط والغضب والفرح الشديد التي تظهر آثارها على الجسد. 
بحسب العلم، هناك خلايا عصبيه متخصّصة في الدماغ، تسمّى الخلايا العصبية المرآتية، تبيح لنا وضع أنفسنا مكان الآخر، وتخيّل ما يمر به في وقت ما. يحدُث ذلك، حين نتابع فريقا نحبّه، فنحسّ بأننا جزء من هذا الفريق. ويورد العلم  جملة من المظاهر النفسية والجسدية التي تُصاحب المتفرّج في أثناء اندلاع مباراةٍ لفريقه المفضّل، منها نشاط المواد الكيميائية والهرمونات والناقلات العصبية، هرمون الدوبامين على وجه الخصوص الذي يمدّنا  بمشاعر السعادة، ويعمل على تحسين المزاج عند لحظة الفوز. كما ينتج  هرمون التوتر الكورتيزون عند خسارة الفريق. 
تتحدّث لغة الجسد وتتفاعل في أثناء مشاهدة المباراة، وقد تظهر على المتفرّج بعض الأعراض، مثل التعرّق وسرعة ضربات القلب وتدفق الأدرينالين، ما يعزّز الشعور بالإثارة، ولم تأت النظريات العلمية بأي فروق تُذكر بين الرجال والنساء في هذا الشأن، ما ينفي طروحات أولئك الذكور المتعصّبين الراغبين في الاستئثار بالمتعة والإثارة التي يتوقعونها حكرا عليهم، جرّاء موروث ثقافي استعلائي ضحل، ينطوي على أوهام التفوق، فيشعرون بالتهديد وفقدان المكانة وينتابهم الذعر من مواجهة فكرة الندّية التي تعبر عنها المرأة القوية المتوازنة، المتحققة أينما وُجدت.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.