المهنة: مؤثّر

06 يناير 2024

(حمزة بونوة)

+ الخط -

كثيرا ما أتساءل كلما أقرأ خبرا عنها أو أرى صورها: ما هي مهنة كيم كاردشيان؟ هي لا تعمل في مجال الأفلام وصناعة السينما، لكنها توجد على السجادة الحمراء في غالبية مهرجانات السينما؛ وهي لا تعمل في الغناء والموسيقى والتأليف، لكنها أيضا توجد على السجادة الحمراء لحفلات توزيع جوائز الموسيقى في العالم؛ وهي ليست عارضة أزياء لكن التعامل معها يتم بوصفها واحدة منهن، إلى حدّ أنها ارتدت في مناسبة الثوب الذي ارتدته الراحلة مارلين مونرو حين غنّت للرئيس الأميركي جون كيندي في عيد ميلاده. ولا يخفى على أحد قيمة هذا الثوب التاريخية والمعنوية، فهو أولا صُمّم لجسد الاستثنائية مونرو، وهو ثانيا دليلٌ تاريخي على تداخل السياسة وتشابكها مع الفن في هوليوود عاصمة السينما العالمية، والذي فرض نفسه، وقيل إنه كان السبب في الموت المبكر والمفجع لمارلين مونرو. ورغم ذلك كله، تمكّنت كيم كاردشيان من ارتداء هذا الثوب وتشويهه، رغم أنها لا أحد، بكل معنى الكلمة، لا منجز ولا قيمة على أي مستوى، ولا شيء علي الإطلاق سوى شهرتها الغريبة على وسائل التواصل إلى درجة ملاحقة أخبارها وتحرّكاتها، وسوى الثروة الهائلة التي جنتها من هذه الشهرة في تطبيق عملي ودقيق لمقولة "رزق الهبل على المجانين".

يُطلق على كيم كاردشيان "مؤثّرة"، وهو لقب ارتبط بكثيرين مع انتشار وسائل التواصل وظهور شريحة من البشر تستمد قيمتها من شهرتها على هذه الوسائل، لا تفعل شيئا سوى عرض (واستعراض) يومياتها وحياتها الشخصية، وكلما عرضت التفاصيل الأكثر خصوصية في حياتها ويوميّاتها ازداد عدد متابعيها في العالم، وبالتالي، ازدادت ثروتها، حتى أصبح هذا "التأثير" مهنة من لا مهنة له، وطريقة سهلة لكسب المال الهائل، يحتاج المرء معها فقط أن يتخلّى عن حيائه وقيمه، وسوف يصبح مؤثرا مشهورا وبالغ الثراء. طبعا، كي نكون منصفين، هناك "مؤثّرون" يقدّمون محتوى هادفا، أو لنقل إنه يحوي موهبة ما، كالذين يقدّمون "ستاند آب كوميدي" أو الطهي أو المعلومات العامة أو التنمية البشرية أو تعليم الفنون، لكن قلّة قليلة منهم فقط يمكنها أن تحظى بشهرةٍ عالميةٍ واسعةٍ وبثروة باهظة. ذلك أن ما يقدّمونه قد يهم مجموعة محدودة تشاركهم في اللغة أو في التفكير أو في الهواية، بينما ما تقدّمه كيم كاردشيان، ومن يحاولن ويحاولون تقليدها في العالم، هو عرض تفاصيل الحياة والعلاقات الشخصية بكل ما تكتنفه من خصوصية.

نحن البشر عموما نحبّ التلصّص، نحبّ الاطّلاع على حيوات الآخرين، وكأننا نبحث فيها عمّا ينقصنا، أو ربما نبحثُ فيها عمّا نفعله نحن، لكننا نخشى الإعلان عنه، فحين نجد ما يشبهه لدى آخرين نشعر بالرضى أننا لسنا وحدنا من يفعل هذا؛ أو كما لو أننا نريد نيل مشروعيةً ما عن خطأ نفعله، حين نجد ما يشبهه في حيوات آخرين لا يمتّون لنا بصلة. لهذا تعتمد الصحافة عموما على عناوين مثيرة في أخبارها لتجذب أكبر عدد من القرّاء؛ ولهذا أصبحت وسائل التواصل (تيك توك، فيسبوك، إنستغرام...) وسائل متاحة أمام الجميع للشهرة ولكسب الثروة، لأنها تلبّي رغبة التلصّص لدى عموم البشر، لأن من يفكّر باستخدامها يدرك أنه سوف يجد متابعين له عبرها، أيا كان المحتوى الذي يقدّمه. وبالمناسبة، ظهرت مفردة "محتوى" وانتشرت بالتزامن مع انتشار مفردة "مؤثر"، ولكم أن تتخيلوا قيمة "المحتوى" الذي يقدّمه "مؤثرون" على شاكلة كاردشيان ومن يشبهها في العالم، ولدى العرب علي وجه الخصوص.

يدافع كثيرون عن هذا النمط من الشهرة من منطق أن البشر أحرارٌ، بما يريدون فعله بحياتهم ولها، لكن الحقيقة أن هذا النمط يروّج استباحة حيواتنا جميعا، حتى أكثرنا حفاظا على خصوصيته، ذلك أن حياتنا أصبحت عرضة لكل من يملك كاميرا موبايل، ولديه متابعون. ذات يوم، كنت في سهرة في بيت صديق، ورقصت في السهرة كما أفعل حين أكون سعيدة، في اليوم الثاني، أرسلت لي صديقة مقطعا منشورا على "تيك توك" لي وأنا أرقص. أحد الموجودين في السهرة سجّل في هاتفه الخاص بعض فقرات السهرة ونشرها على صفحة "تيك توك" خاصته من دون استئذان. هذا الشخص يسمى مؤثرا وصانع محتوى! تخيّلوا.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.