المعرّي والعقل ... والثورة السورية
عاد الحديث إلى أبي العلاء المعرّي، شاعرِ الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، مع اقتراب الذكرى الثانية عشرة لانطلاق الثورة السورية، الذي يصادف أواسط شهر مارس/ آذار الجاري. كاتبُ هذه الأسطر زعمَ، في أكثر من مناسبة، أنه لم يعد هناك ثورة، فقد مُنيت بهزائم متلاحقة منذ 2012، بعوامل داخلية وخارجية، وهُزم معها نظام الأسد الوراثي الاستبدادي، وتحوّلت سورية، مع بالغ الأسف، إلى دولة فاشلة، غير قادرة على رتق رقعةٍ صغيرةٍ واحدةٍ من ثوبها الممزّق.
يمكننا أن نناقش موضوع إخفاق الثورة في مكان آخر، ووقت آخر، فهو إشكالي، مثل شخصية أبي العلاء المعرّي التي ما انفكت، منذ أزيد من ألف سنة، تثير الجدل، وتَصنع انقساماتٍ حادّة، بين أهل النقل وأهل العقل، وبين اللاحمين والنباتيين، وبين أنصار التكاثر والعازفين عن "جناية الإنجاب"، وبين عميقي الإيمان والملحدين، وبين المجاهرين بانتقاد الشرائع والمعتقدات، والمدافعين عنها بشراسة .. وأما حديثنا الآن، فمحوره أن مؤسسة "ناجون" التي يرأسها الفنان فارس الحلو، بادرت، في سنة 2018، إلى صناعة تمثال عظيم لرأس المعري، وعهدت بإبداعه إلى كبير النحاتين السوريين، عاصم الباشا، وقد وُضع التمثال، فور إنجازه، في مكان مرتفع من مدينة غرناطة الإسبانية، على أمل أن يُنقل، بعد أن تتخلص سورية من الحكم الديكتاتوري (إذا تخلّصت!) إلى مسقط رأسه، معرّة النعمان، في الشمال السوري ... وقبل أيام قليلة، تمكّنت "ناجون" من الحصول على إذن من بلدية مونتروي الباريسية، لنقل التمثال من غرناطة، ورفعه فوق مكان بارز في مدخلها، وما يزال أملُ "ناجون" بانتصار الثورة، ونقله إلى المعرّة، قائماً.
عندما نُشر خبر نقل التمثال إلى باريس، على وسائل التواصل الاجتماعي، التبس الأمر على بعض المتابعين، فتساءلوا عن العلاقة بين هذا التمثال وخبر تردّد في الأخبار، أوائل الشهر الماضي (فبراير/ شباط) أن مسلحين إسلاميين متشدّدين، قطعوا رأس تمثال المعرّي في المعرّة. لتوضيح ذلك، أشير، وأنا أخوكم، إلى أن المجمع العلمي في دمشق، الذي كان يرأسه المؤرّخ محمد كرد علي، نَظَّمَ، في سنة 1944، ما عُرف باسم "المهرجان الألفي لأبي العلاء المعرّي"، حضرته شخصيات سورية وعربية أدبية رفيعة الشأن، منهم طه حسين، تلميذ المعري النجيب، وكُلّف الفنان "فتحي محمد" (1917- 1958)، وهو حلبي من أسرة قباوة، كان يحمل لقب "عَرَّاب النحّاتين السوريين"، بنحته، ووُضِعَ التمثال في الحديقة الصغيرة المواجهة لمتحف المعرّة الذي كان يحوي قطع فسيفساء نادرة سُرقت خلال هذه الفوضى.
أخبرني الصديق الشاعر عبد الرحمن الإبراهيم، وهو ابن منطقة معرّة النعمان، أن ما أذاعه رامي عبد الرحمن، رئيس المرصد السوري لحقوق الإنسان، في سنة 2013، ونقلته عنه معظمُ الصحف والمواقع، أن الرأس قطعه الجهاديون ليس صحيحاً؛ فالتمثال تعرّض لقذيفة مدفعية، لأن المعرّة، يومئذ، كانت قد خرجت عن سيطرة النظام، وأصبحت تُقصف بشكل يومي ... وأنا لا أنقل كلام الصديق عبد الرحمن لأبرئ المتشدّدين من الفعلة، بل إنني أميل إلى الجزم بأنهم لو صادفوه لكسروه، أو قطعوا رأسه بلا تردّد، لسببين: أنهم يعتبرون أية منحوتة لإنسان صنماً، وأن المعرّي أحد الملحدين الثلاثة الذين صنّفهم ابن الجوزي بقوله الشهير "ملاحدة الإسلام ثلاثة"، وقد مرّت بنا، خلال العقد الأخير، حوادث كثيرة تشير إلى تطيّر الجهاديين من التماثيل والأضرحة، فتنظيم داعش نسف مسجداً في ريف حلب، لاحتوائه على مقامٍ لشيخٍ يتقرّب منه الفقراء، و"داعش" كسر أثمن الآثار في متحف تدمر، وقد سبقته حركة طالبان إلى نسف تمثالين لبوذا سنة 2001..
سوف يُرفع الستار عن تمثال المعرّي في باريس، يوم 15 مارس/ آذار الجاري، وتنطلق بعد ذلك مسيرة صامتة، دعت إليها "ناجون" تضامناً مع ضحايا الزلزال في سورية وتركيا.. عملُهم هذا، فيما أرى، هو عين "العقل".