المعرّي .. أيقونة المتعاركين
كان حدّثني أبو الحسن الدّلفي المصيصي الشاعر، والمصيصة التي ينسب إليها ببلاد الشام، وهو ممن لقيته قديما وحديثا في مدة ثلاثين سنة، قال: لقيت بالمعرّة عجبا، رأيت أعمى، شاعرا، ظريفا، يكنّى أبا العلاء، يلعب بالشطرنج والنرد، ويدخل في كل فنٍّ من الجدّ والهزل، وسمعته يقول: أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر، فقد صنع لي وأحسن بي، إذ كفاني رؤية الثقلاء والبغضاء.
المقطع من "يتيمة الدهر" للثعالبي. أما محمود شاكر فقد تناسى تماما سخرية المعرّي المرّة، وتناسى الشطرنج وإجادة كفيفٍ لها، ونصب المعركة مع لويس عوض حامية الوطيس، ولا انتهت أعاجيب المتخاصمين في كفيفٍ من معرّة النعمان بعد ألف سنةٍ وأكثر، وما زال الرجل موضع خلافٍ لا ينقطع في بطون الكتب، فهل كان يعلم وهو في معرّة النعمان وحيدا، سواء أدخل إلى أنطاكية "مجدورا أو غير مجدور"، كي يلاقي أسامة بن منقذ أو يقرأ على يد راهبٍ في كنيسة، هل كان يعلم المعرّي أن محمود شاكر سيأتي بعد ألف سنةٍ ويرفع في وجه لويس عوض "دقّة التاريخ وأمانته"، الذي لم يقرأ، كما أكّد أبو فهر، سوى كتاب طه حسين عن المعرّي، والذي كتب في سنة 1913، أي ولم يكن طه حسين قد أكمل عامه الخامس والعشرين. ويرى محمود شاكر أن ذلك ليس به من القوامة والإلمام الحصيف لأن يخوض بمؤكّداتٍ قاطعةٍ في حكيم المعرّة، حيث أدوات المنهج ما زالت تتعثر ما بين يديه في أول الطريق، كما تشكّك أيضا محمود شاكر في من لاقاه المعرّي في بدايات طلب العلم، سواء أكان في الدير أو أنطاكية أو اللاذقية أو حتى حلب.
بالطبع، يميل محمود شاكر إلى أن المعرّي لم يقابل راهبا أبدا أو عالما في دير، حتى وإن كان هذا الراهب الإنطاكي يتقن العربية والسريانية معا، وإلا لشكّ محمود شاكر فيما أنتجه المعرّي جملة وتفصيلا، أو على الأقل بدأ في تفنيده، إلا أن تغاضي محمود شاكر ذلك لم يكن تقليلا من شأن العقيدة في كتابات المعرّي أو أي مفكر آخر ، ولكن لأن المقصود، منذ البداية، في التقليل من شأن كتاباته هو لويس عوض، وهو المقصود بالقذائف وحده، فصار المعرّي أيقونة محمود شاكر ولويس عوض معا، وكل واحدٍ منهما حسب ما يريد أن يكون مربط فرس أفكاره، وخرج طه حسين بكتابه عن المعرّي بنصيبٍ قليلٍ من طرف ردٍّ بسيط: "بأن الكتاب ليس به من القوامة والإلمام الحصيف".
بالطبع، جمّع المعرّي، من قبل وبعد، المتعاركين على موائد كثيرة من العراك ما يقرب من ألف سنة، وظل هو ساكنا في الشام.
ضاعت علينا نحن العرب سخريات لاعب شطرنج كفيف، وأناسٍ من حوله أو من صفوته، وبقي لنا نزيف الاعتقاد ورماد الحرب. أما لو فتحنا الباب للعقاد وطه حسين عن "رسالة الغفران"، فنرى أن العقاد في موضعٍ يؤكّد جازما أن دور الخيال في "رسالة الغفران" لم يسبقه إليه أي أحد، إلا أن طه حسين "ابن المنهج العلمي"، وإن اتفق تماما مع ما ذهب إليه العقاد في دور "الخيال"، غير المسبوق في "رسالة الغفران"، إلا أنه غمز في منهج العقاد "شبه الوجداني"، بأن العقاد نفسه كما ذكر طه حسين قد زعم أن أبا العلاء في "رسالة الغفران"، في فصل آخر من الكتاب، "لم يكن صاحب خيال". ويتعجّب بالطبع طه حسين من ذلك التناقض للعقاد ما بين فصلين في كتاب واحد وعن شخصية واحدة ملأت كتب العرب صدرا ومتنا وهامشا، بقولته اللاذعة في حق العقاد: "كيف تورّط في هذا القول كاتب كالعقاد؟"، فكيف نام تلاميذ العقاد، وهم كثر، على نقد طه حسين أستاذهم؟
طويت تلك الصفحات من تاريخ القراءة والمعرفة، بعد ما رفع المواطن المصري وجهه من فوق أطنان الكتب والمراجع ومكتبة باب الخلق، وتفرّغ تماما، ومن سنوات مضت، لمشاهدة معارك نجوم السينما والتلفزيون والمسرح ليل نهار، حتى وصل به المقام، أخيرا، إلى مشاهدة معارك الورثة على تركة ممثلٍ طيب، كتب كل ثروته لأولاده واكتفي بالدموع لليلتين، على الرغم من أنه لم يمتلك عمارة ولا حتى كاميرا أو ساعة غالية الثمن مطعّمة بالألماس كما قيل، فقط هاتف موبايل باسمه، وعلى الرغم من ذلك ."حجرت" عليه ابنته كما قيل أيضا، ثم تصالح الورثة جميعا فيما بعد، وانهمرت الدموع، وقد يسلمهم هاتفه المحمول بعد قعدة الصلح.