المعركة مع الشرطة الدينية ليست في شوارع طهران
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.
كل ما شاهدته إيران من ثورة على نظام الثورة الإسلامية لم يثوّر الفكر الإسلامي الشيعي، مع أنها ليست الثورة الأولى، ولن تكون الأخيرة في حال فشلها. لم نشهد ثورة فكرية ولا مراجعة سريعة، وربما ارتاح كثيرون إلى تصريحات المرشد الذي دعا إلى "الصمود" في مواجهة المؤامرات، طالما أن الشعب على طريق "النظام الإسلامي والقيم الدينية"، واصفا ما شهدته البلاد ولا تزال بـ "الاضطرابات المتناثرة". ليست هذه المرّة الأولى التي يظهر فيها العجز الفكري لدى الإسلاميين، شيعة وسنة، في مواجهة الهزّات العميقة، لا الاضطرابات المتناثرة. وهو ما يذكّر بعجز الماركسيين، عندما تعرّض الاتحاد السوفياتي ومن حالفه لهزّات أدت إلى انهيار دول المنظومة الاشتراكية.
لسنا أمام مشروع بحثي واسع، لدينا مسألة ملحّة ومحدّدة يجب مراجعتها؛ مدى سلطة الدولة على الدين، وهل يجوز لها أن تؤسّس شرطة دينية تراقب الناس وتتجسّس عليهم لمعرفة مدى التزامهم ومحاسبتهم على ذلك؟ يُحسب لولي العهد السعودي (مع التأكيد على الاختلاف معه في قضايا) أنه أعاد هيئة الأمر بالعروف والنهي عن المنكر إلى مجالها الفاعل، وهو الدعوة والإرشاد، وربما كانت الدولة السعودية أول من أسّس الشرطة الدينية وأول من ألغاها، في الدائرة السنية الوضع ليس أفضل من إيران، ولم يقتصر على السعودية.
فرض نظام ثورة الإنقاذ الذي انقلب على الديمقراطية في السودان عام 1989 نظاما مشابها، ثم "طالبان" بعد سيطرتها على أفغانستان في 1996، والذي اعتمدته مجدّدا بعد انتصارها وعودتها إلى حكم كابول.
ذلك كله يهون أمام التجربة الأسوأ؛ عندما حكم تنظيم داعش أجزاء واسعة من سورية والعراق، واعتمدت نظام شرطة دينية مروّعا. يقال إن "داعش" شوّه صورة الإسلام ولا يمثله، إذن لماذا لا ينبري علماء الدين إلى مواجهة التشويه من خلال إصلاح ديني حقيقي؟ وعلى رأي المفكر العربي عزمي بشارة، الإصلاح الديني "ليس من مهام العلمانيين وإنما جهد يقوم به المتديّنون".
قد تكون الممارسة بدأت في الغرب، وفي كتابه "الدين والعلمانية في سياق تاريخي"، يذكر بشارة أنه في عهد هنري الثامن، وفي بريطانيا بشكل عام، نشأ مفهوم "التجسّس على عقائد الناس وآرائهم وصلواتهم بنظام رقابة من الدولة، تعقبها عمليات قضائية وعقوبات على جرم الرأي المختلف، أو العقيدة المخالفة. وبدأت الدولة البوليسية بالظهور مع بداية الإصلاح الديني البروتستانتي والصراع مع الكنيسة. وكانت مهمات الرقابة البوليسية الأولى مهمات دينية متعلقة بولاء الناس لدين الملك. ثمّة علاقة بين نشوء مؤسسات الدولة والإكراه الديني باعتباره فرض الولاء للملك. وهي علاقة أوثق مما يمكن تخيله في إطار سردية العلمنة. كما شمل الإصلاح الديني ردّة سلفية أصولية شملت تدمير تماثيل فنية دينية الطابع، وصور ولوحات دينية وغيرها مما يستهجن اليوم حينما يجري في بلدان أخرى. وهذا يذكرنا بأن الفرادة التي تلصق بالتطورات في بعض زوايا العالم الإسلامي مبالغ فيها، وأن الكثير من الأمور التي تجري في العالم العربي والإسلامي لها سوابق في حضارات وديانات أخرى، وأنها تجري في العالم الإسلامي في سياقات مختلفة، وبشكل متأخّر فحسب" (ص 79، الجزء الثاني المجلد الأول).
نحتاج لدراسة تاريخ الشرطة الدينية وتطبيقاتها في تاريخنا، فالقصة المشهورة عن عمر بن الخطاب، والموثقة في كثير من كتب التراث، أنه "خرج يوما فرأى ضوْء نار وكان معه عبد الله بن مسعود، فتبع الضوء حتى دخل الدار فوجد سراجاً في بيت فدخل، وذلك في جوف الليل، فإذا شيخ جالس وبين يديه شراب ومغنّية، فلم يشعر حتى هجم عليه عمر، فقال: ما رأيت كالليلة منظراً أقبح من شيخ ينتظر أجله، فرفع رأسه إليه فقال: بلى، يا أمير المؤمنين، ما صنعت أنت أقبح تجسّست وقد نُهي التجسس، ودخلت بغير إذن. فقال عمر: صدقت ثم خرج عاضاً على ثوبه يبكي، وقال: ثكلت عمر أمه إن لم يغفر له ربه".
من المريح وصف كل الاحتجاجات العميقة "الاضطرابات المتناثرة"، فهذا يعفي من أي جهد حقيقي شاقّ للدفاع عن الإسلام، دينا وثقافة وحضارة. نحتاج جهدا عميقا وشجاعا لا يجامل الخطأ ويتصالح معه. "النظام الإسلامي والقيم الدينية" على قول المرشد، ليست بفرض الشرطة غطاء الرأس، بقدر ما هي إعلاء قيمة العفّة، وهذه تشمل الرجل والمرأة، وهي قيمة تبدأ بالتربية والقناعة باحترام المرأة جسدها وعدم ابتذاله، وعدم اعتداء الرجال عليه بالنظرة السيئة أو اللمس .. ولا تنتهي بأوضاع اقتصادية تمنع الاتّجار بالجسد، كما تشهد عاصمة الجمهورية الإسلامية. المؤكد أن من فقد العفّة أو فقدتها لا تستطيع الشرطة الدينية إعادتها لهما قسرا. المعركة مع الشرطة الدينية ليست في شوارع طهران، بقدر ما هي في عالم الأفكار.
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.