المعايير الأيديولوجية للإبداع
إحدى الصحافيات الفرنسيات اللواتي يغطّين فعاليات مهرجان أفنيون المسرحي لم تعجبها قصائد الشاعرة الفلسطينية كارول صنصور، واعتبرتها لا تمثل القضية الفلسطينية ولا الشعر الفلسطيني. وكارول التي عاشت معظم حياتها في بيت جالا قبل خروجها نهائيا من فلسطين، تكتب عن فلسطين كما رأتها وعاشتها خارج شعارات القضية وهاشتاغات التسويق لكتاباتٍ عن قضية ما زالت مثيرة لاهتمام مثقفين أوروبيين يساريين، أو فرنسيين من أصولٍ عربية، يضعون قلادات ذهبيه تمثل علم فلسطين أو تحمل صورة حنظلة، شخصية ناجي العلي الشهيرة، ويعرفون فلسطين عبر الإعلام، بينما تكتب صنصور عن فلسطين، الوطن الذي تحبّه وتكرهه في الوقت نفسه، الوطن الحقيقي، حيث بيت العائلة وذكريات الطفولة والمراهقة، حيث الأسئلة الأولى عن الجنس والدين والأمومة، عن فساد مؤسّساته، عن وطن من لحم ودم وأسنان تفتت لحم أبنائه جنبا إلى جنب أنياب المحتل، لا عن وطن الهتافات ولا الشعارات، تكتب عن قضيتها هي في الوطن، لا عن قضية الوطن فيها.
صحافي مغربي فرنسي لم يعجبه ما قدّمته كاتبة هده السطور في مهرجان أفنيون، قائلا إنه لم يجد فيها المرأة السورية التي يبحث عنها، المرأة السورية التي تعرّضت للعنف وعاشت مأساة فظيعة. وتابع إنه شخصيا كتب عن هذه المرأة، وقدّم صورتها الحقيقية التي تجاهلتها أنا في نصوصي: "يبدو أنها لا تعرف شيئا عن مأساة بنات بلدها، أنا أعرف أكثر منها"... قال هذا نحو الواحدة ليلا في سهرةٍ جمعت المشاركين في أفنيون ثم مضى إلى النوم.
مبدئيا، من الطبيعي والمعتاد أن يُعجَب أحدٌ بنصوص ما، أو بعرضٍ ما، وألا يُعجَب آخرون به. ومن الطبيعي انتقاد أي عمل أدبي أو فني، وأساسا ما يجعل العمل الأدبي أو الفني حيا حالة الجدل التي يثيرها، وما يتعرّض له من النقد أو من المديح. لا أحد من بيننا (نحن المشاركات في مشروع شاعرات في أفنيون) لديه أوهام معاكسة. وجميعنا يدرك أن الشكّ معادل للتطور، والثقة الكاملة قاتلة للموهبة. لكن النقد، أو الآراء مثل السابقة، لا يتعلق بفنية العمل أو قيمته، هو نقد أيديولوجي ينطلق من فهم مؤطّر ومحدّد للأدب والفن، ويضعهما في خدمة السياسة، في وقتٍ نحتاج فيه، نحن العرب، جميعا، إلى خروجهما من معطفهما نحو آفاق أكثر رحابةً واتساعا، تنتمي إلى الإنسان، بمخاوفه وهواجسه ومكابداته وضعفه؛ الضعف والهشاشة والانكسار هي ما تتسبّب بها السياسة بمفهوميها، الضيق والشمولي. وهذا ما يجعل من أي عملٍ إبداعي عملا سياسيا في صيغةٍ من صيغه، وهو، مثلا، ما انتبه إليه محمود درويش لاحقا، حين استطاع أن ينجو بقصيدته من براثن السياسة والقضية نحو الشعر بكل تجلياته. وهذا ما ميّز شعر بابلو نيرودا العاطفي والوجداني، خصوصا في قصائده إلى ماتيلدا. والاثنان شاعرا قضايا كبيرة، لكن ما تبقى من شعرهما للزمن هو الشعر الصافي المتخلص من البرمجة الوظيفية السياسية.
هناك ما يشبه التنميط حاليا في العالم الغربي الذي يستقبل موجاتٍ من اللاجئين الهاربين من الحروب، خصوصا في العقد الزمني الأخير، تنميط يطاول الأدب والفن، بوصفه منتجا ينبغي أن يحمل مواصفاتٍ محدّدة لتسويقه في بلاد الغرب، فمثلا أنا الشاعرة السورية أقدّم عرضا ما في مهرجانٍ كأفنيون، سوف يتوقع بعضهم أنني حتما سأتكلم عن سورية ومأساتها، أو سوف يشعرون بالخيبة، وسيعتقدون أنهم سوريون أكثر مني. ولكن هل حقا نصّي عابر للمأساة السورية؟ وهل العزلة التي كتبت عنها ليست "مُنتجا" سوريا بامتياز؟ وهل يمكن لأحدٍ لم يعرف سورية إلا عبر الإعلام أن يشعر بما تشعر به امرأة سورية تجاوزت منتصف حياتها، واضطرّت للخروج من بلدها لتعيش وحيدة في بلد جديد ومجتمع جديد وظروف جديدة؟
قدّم اللاجئون العرب في أوروبا، خصوصا في العقد الأخير، منتجا إبداعيا يتناسب مع معايير التسويق التي تطلبها مؤسساتٌ ليست معنيةً برداءة العمل الإبداعي أو قوته، قدر عنايتها بشروط نمطيةٍ معينة، وقد كتب أصدقاء عديدون مقالات ودراسات عن ذلك في السنوات القريبة السابقة. وعلى الرغم من أن الأمر بدأ يخفّ، لا سيما مع وجود لاجئين جدد من عالم مختلف، سوف تنشغل بهم وبمنتجهم الإبداعي المؤسّسات والمنظمات المعنية، فإن القادم من العالم العربي أو من يكتب بما لا يخدم التوقعات منه سوف يلاحظ هذا التنميط، حتى لو كان مجرّد جملةٍ يطلقها أحدهم عند نهاية سهرة صاخبة، ثم ينطلق نحو النوم.