المصريون أغنياء عند الحكومات
"دولة غنية وشعب فقير".. مقولة شهيرة تتردّد دائماً عن مصر، قياساً على اتساع حجم الموارد والإمكانات المتاحة، وضيق حال الشعب المصري الذي لا تصل إليه تلك الموارد، ولا يتمتع بعوائدها. وإضافة إلى سوء إدارة الحكومات المتعاقبة وإخفاقها في توظيف ما لدى مصر من قدرات، ينظر الساسة إلى المواطن المصري أنه غير صريح وليس فقيراً، كما يدّعي، فقد صارت الحكومات المصرية قادرة على قياس أحوال المصريين المعيشية بدقة أعلى، بامتلاك بيانات كاملة ومقارنات تفصيلية لمستويات الدخول ومعدّلات الإنفاق وتوزيعاته الفردية والأسرية كمّاً ونوعاً. لذا، فإن موجات الغلاء المتتالية والرسوم المتصاعدة والضغوط الاقتصادية التي تباشرها الحكومة الحالية على المصريين بأشكال متعدّدة، ويعتبرها المواطنون إفقاراً متعمداً لهم، تبدو منطقية في نظر الحكومة والمسؤولين، بسبب ما تملكه الدولة من معلومات عن اتجاهات الإنفاق وحجم الأموال التي ينفقها المصريون على أغراض وأنشطة بعيدة تماماً عن مفهوم الفقر ومقتضياته.
فمثلاً، وفقاً لإحصاءات هيئة الرقابة المالية المصرية، بلغت قيمة الإنفاق السلعي للمصريين، بأسلوب "التقسيط"، في النصف الأول من العام الجاري 2022، أكثر من 11,1 مليار جنيه (590 مليون دولار). منها 4,9 مليارات جنيه (حوالي 260 مليون دولار)، أي ما يقرب من نصف هذا المبلغ، أنفق على شراء الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية. بينما توزعت بقية مشتريات المصريين بالتقسيط على السيارات (بنسبة 31%) والأثاث (5%) والمستلزمات الشخصية من ملابس وأحذية ومجوهرات وساعات (4,5%)، وتوزّعت بقية النسبة على الأجهزة المنزلية واشتراكات الأندية وقطع غيار السيارات والأغذية. وتشير هذه الأرقام بوضوح إلى اتجاه السلوك الاستهلاكي لدى المصريين إلى السلع مرتفعة التكلفة، في ظل التسهيلات التي صارت تتيح شراءها بالتقسيط.
ولكن أرقاماً أخرى تفيد بأن ارتفاع معدّلات الإنفاق الاستهلاكي للمصريين لا يقتصر على السلع الأساسية، وإنما يمتد أيضاً إلى سلع كمالية أو ترفيهية. منها مثلاً ما ذكره "الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء" عن مستحضرات التجميل، فقد استوردت مصر خلال العام الماضي (2021) أدوات تجميل الشفاه (أحمر الشفايف) بحوالي 81,5 مليون جنيه (5,2 ملايين دولار).
قد لا تبدو هذه الأرقام كبيرة ولا مبالغاً فيها إذا جرى توزيعها على عدد السكان، وتحديداً على الفئات المجتمعية المعنية بكل من تلك السلع. لكن هذا الحجم من الإنفاق ليس قليلاً، ولا يتسق مع أحوال شعبٍ هو فقير بالفعل. والأهم أن ذلك الإنفاق يتيح للحكومات المتعاقبة التذرع به في اتهام المصريين بالسّفه والتبذير، أو على الأقل بامتلاك ما يكفي من الدخل للإنفاق على تلك الأغراض، خصوصا في ظل تضخم الاقتصاد غير الرسمي، وشيوع وجود مصادر دخل موازية لمصريين كثيرين. بل إن دراسات رصدت حجم إنفاق المصريين على أعمال السحر والشعوذة، حيث توصلت دراسة للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية إلى أن المصريين ينفقون حوالي 15 مليار جنيه (800 مليون دولار) سنوياً على قراءة الطالع وفكّ السحر والعلاج من الجان.
وفي المقابل، لا تقل الحكومات بذخاً وتبذيراً عن الشعب، خصوصاً في رواتب (ومكافآت) المناصب القيادية ومن يحيط بها من مستشارين. وكذلك في ما يتمتع به أصحاب المناصب العليا من امتيازات مالية وعينية، مثل السيارات الفارهة والحراسة المبالغ فيها.
المصريون بالفعل فقراء، والحكومات لا تبحث عن انتشالهم من الفقر، وإنما عن تحميلهم تبعاته، بل وتمارس هي نفسها البذخ على نطاق واسع. لكن المصريين أنفسهم بالفعل لا يجيدون إدارة الدخول أو تنظيم الإنفاق وفقاً لأولويات موضوعية غير مظهرية. وبالتالي، يمنحون المسؤولين حُجّة ومنطقاً في مضاعفة ثمن كل شيء وتسعير ما كان مجانياً، بدءاً من الماء والغذاء، وحتى المشي على ضفاف النيل وتنسم الهواء.