المسكوت عنه بين إيران وإسرائيل
قبل نشوب الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، كانت العلاقة بين إسرائيل والإمبراطورية الإيرانية الشاهنشاهية وطيدة وتعاونية إلى حدّ بعيد. وكان هذا التعاون صريحاً ومعلناً. ورغم ذلك، كانت لطهران علاقات جيّدة ببعض الدول العربية، ومنها مصر، التي تشاركت وطهران في 1974 تحرّكاً فريداً من نوعه في الأمم المتحدة، لصياغة مبادرة لإخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل.
بعد قيام الثورة الإسلامية، اتخذت العلاقات بين طهران وتل أبيب نمطاً مغايراً، يجمع بين مسارين متوازيين ومتناقضيْن، مسار عداء معلن وتراشق إعلامي وصراع ظاهري، ومسار غير معلن يتراوح بين التعاون المباشر، الذي وصل إلى التسليح في ثمانينيات القرن الماضي (فضيحة "إيران غيت")، والتوافق الضمني على قواعد حذرة وتحفّظية للاشتباك بمختلف أشكاله السياسية والعسكرية أو ما يمكن اعتباره قواعد للعبة تحصر العداء في الخطاب والتحرّكات السياسّية غير المباشرة، ولا تسمح بأيّ مواجهات فعلية مباشرة أو غير مباشرة. ومع بداية الألفية الجديدة، كانت طهران قد أسّست شبكة حلفاء ووكلاء إقليميين تستطيع من خلالهم التدخّل والتأثير في الأوضاع الداخلية، بل وفي السياسات الإقليمية لبعض الدول العربية. بينما كانت إسرائيل قد تحوّلت إلى قوة إقليمية عُظمى، من خلال تكريس تفوّقها العسكري على مختلف دول المنطقة، وبإقامة علاقات رسمية وغير رسمية مع دول عربية.
وبتغير موازين القوى لصالح الدولتين، وتحوّلهما إلى مركزي قوّة في الشرق الأوسط، بدأت التفاعلات بينهما تتّسم بالندّية والتنافسية. ونتيجة السيولة الإقليمية والتبدّلات السريعة للتحالفات، لجأت طهران وتل أبيب إلى توظيف أوراق الضغط وأدوات التأثير المتاحة، فأخذت إيران تدعم فصائل المقاومة الفلسطينية، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وراحت إسرائيل تطرح نفسها حليفاً أمنياً لدول الخليج في مواجهة النفوذ الإيراني. وعلى مدار العقدين الماضيين، اتجهت العلاقة إلى مستويات متصاعدة بالتدريج، وإن ببطء، من تنازع أوراق القوّة والتصارع على النفوذ الإقليمي، من دون أن تخرق سقف الندّية والتنافس، فلم تصل يوماً إلى حالة مواجهة فعلية أو صراع مباشر لا عسكرياً ولا سياسياً. فلم تتحرك إسرائيل بصورة جدّية لوقف البرنامج النووي الإيراني، كما فعلت سابقاً مع العراق. ولم تقم إيران بأيّ عمل عدائي مباشر تجاه إسرائيل، لا بنفسها ولا من خلال وكلائها في المنطقة.
ثمّة عوامل عجّلت في تحويل الندّية الحذرة بين طهران وتل أبيب إلى مُناكفاتٍ متبادلة. كان أكثر تلك العوامل أهميّة تراجع القوّة الأميركية وتقلّص تأثيرها في الشرق الأوسط، وانفتاح دول المنطقة بشكل أوسع على قوى كبرى أخرى، خصوصاً الصين وروسيا. ثم جاء "طوفان الأقصى" ليجسّد لحظة الحقيقة، ويضع دول المنطقة كلّها أمام اختبار لمطابقة السياسات المعلنة مع الأهداف الحقيقية. وبعد ستة أشهر من "الطوفان"، بدا أنّ طهران أكثر قدرة ورغبة في تطوير إدارتها العلاقة مع إسرائيل، لتصبح مُنكَشِفَة وصريحة، ولو في حدود. وبعد أن كانت إسرائيل تتجنّب فتحَ جبهة مع إيران أو حلفائها، وجدت نفسها في مواجهة مناوشات متقطّعة مع الحوثيين، ثمّ حزب الله، وأخيراً مع إيران نفسها. لا يعني ما سبق أنّ الدولتين بصدد حرب مفتوحة أو صراع حقيقي، لكنّه يعني بوضوح أنّ التوافقات الضمنية وقواعد اللعبة، المسكوت عنها في الماضي، مرشّحة للتغيّر، فلم يعُد الردع ضمنياً ولا مسكوتاً عنه، وإنّما أصبح صريحاً ومحمولاً بالصواريخ والمُسيّرات من وإلى الجانبين.
العلاقة بين طهران وتل أبيب، التي لم تتأثّر طوال العقود الأربعة الماضية بأيّ محفّزات جوهرية للصراع؛ لا تصدير الثورة الإيرانية ولا تلهّف إسرائيل على الهيمنة إقليمياً، لا تمثّل لها المناوشات الأخيرة سوى تطوير لأدوات إدارة العلاقة وليس تغيّراً في جوهرها التوافقي الحذر.