المستحيل و"جزّ العشب" في غزّة؟
صحّ، أول من أمس، ما أورده تقرير غولدستون في العام 2009، أن أغلب العُشب في سياسة إسرائيل، تعزيز قدرتها الردعية وإضعاف حركة حماس، السياسة المسمّاة "جزّ العشب"، هو "من المدنيين الفلسطينيين غير المحاربين، والذين استهدفتهم إسرائيل من غير تمييز بأسلحتها الدقيقة". كان هذا في غضون عدوانٍ على غزّة قبل 12 عاما. وعندما يُصاب 41 مدنيا فلسطينيا، بينهم 22 طفلا، في اعتداء قوات الاحتلال على مسيرةٍ شعبيةٍ سلميةٍ لإحياء ذكرى حريق المسجد الأقصى، عند سياج قطاع غزّة، فإن إسرائيل لا تجزّ عُشبا، وإنما يمارس جيشها الهمجي سلوكا إرهابيا، على ما صحّ قول متحدّثٍ باسم "حماس". هو السلوك الذي تفادى تقرير غولدستون نعتَه بالإرهاب. وعندما تقول، أول من أمس، وزيرة الداخلية في حكومة الاحتلال، إيليت شاكيد، إن هناك حاجة لتطبيق إسرائيل سياسة "جزّ العشب" في قطاع غزّة، بتنفيذ هجماتٍ تضمن استمرار عدم تعاظم قوة حركة حماس، فإنها ترتكب دجلا كثيرا، فهذه الهجمات لم تتوقف، غير أن تقديرات الاحتلال واستخباراته قوة "حماس" لم تكن يوما دقيقةً تماما، ولا قادرة على إضعاف هذه القوة بالمقادير التي يشتهيها جنرالات الجيش المعتدي. وما جرى في القطاع، الليلة قبل الماضية، يدلّ على أن هذا الكلام ما زال وجيها، فقد شنّ هذا الجيش غاراتٍ على مواقع في القطاع (للترهيب والترويع؟)، واستهدفت أربعة مواقع لحركة حماس لإنتاج السلاح وتخزينه، غير أن المقاومة ردّت على طائرات العدوان بالرشّاشات الثقيلة.
جاءت الأخبار، في الأثناء، على تطويق جهودٍ مصريةٍ وأمميةٍ نذر تصعيدٍ أكبر، كادت المواجهة هذه تتدحرج إليه. وذلك كله بعد أن أمكن لشابٍّ فلسطيني استهداف جندي قنّاصٍ إسرائيلي، في لحظات العدوان على التظاهرة الشعبية نهارا، وأوقع فيه إصاباتٍ حرجة، برصاصاتٍ من مسدّسٍ صوّبه الشاب على الجندي المعتدي، من إحدى فتحات الجدار المقام على حدود غزة. وصحيحٌ أن هذه المفاجأة البطولية فردية الطابع، إلا أنها تؤكّد البديهية المنسية، أن في وسع إسرائيل أن تحمي نفسها بما لديها من إمكاناتٍ وقدراتٍ عسكريةٍ فادحة، غير أنه ليس في مكنتها أن تضمن أمن عساكرها تماما، وأن تحمي مواطنيها ومستوطنيها من المقاومة الفلسطينية التي قد تبرُد وتيرتها، وتخفت فعالياتها، غير أن من المستحيل أن تموت، سيما إذا ما تيسّرت لها قياداتٌ تتوفّر على الرشد والشجاعة، وعلى الإرادة من قبلُ ومن بعد. وواقعة قنص القنّاص الإسرائيلي في غزّة هذه تذكّر بوقائع شبيهة، فلا يُنسى، مثلا، ثائر كايد حامد، الذي أمكن له، باستخدام بندقيةٍ من مخلفات الحرب العالمية الثانية، قتل عشرة جنود إسرائيليين، عند حاجز عسكري في وادي عيون الحرامية، شمال رام الله، في مارس/ آذار 2002. ولا تُنسى صورة شارون أمام جثثهم الملمومة في أكياسٍ سود.
وقائع أول من أمس في غزة تذكّر الناسين، وما أكثرهم، بأن القطاع ما زال محاصَراً، وأن "التسهيلات" وتمرير بعض السلع والحاجيات، وكذا الاتفاق على دخول المنحة القَطَرية المخصّصة لعوائل غزّة الفقيرة، إنما هي إجراءاتٌ موضعيةٌ لا تُنهي حالا شاذّا مديدا. وتذكّر هذه الوقائع، أي الاعتداءات الإسرائيلية نهارا وليلا، بأن للحرب وجوها كثيرة، وأن إسرائيل إذا كانت قد أوقفت إطلاق النار بعد عدوانها الواسع في مايو/ أيار الماضي، فإنها ماضيةٌ في استباحة قطاع غزّة (وعموم الأراضي المحتلة بالمناسبة)، ليس بغارات الطيران الحربي وحدها، وإنما أيضا بقنص متظاهرين سلميين مدنيين، وفي اختطاف من تريد من أسرى في غير بلدةٍ ومدينة، وفي إطلاق تهديدات الوعيد التي لا تتوقف. وتقارير الصحافة العبرية تُبلغ من يريد أن يتبلّغ إنها جولة هدوءٍ راهنةٍ قد تمتد شهورا، لشراء الوقت، يكاد يكون مؤكّدا أن تُستأنف بعدها حروبٌ عدوانيةٌ تلد أخرى، وفي جراب حكومة المحتلين من الذرائع لفعلةٍ كهذه ما يفيض عن الحاجة. وهنا، يصير الرّشد شديد الإلحاح والوجوب عند أهل الميدان في المقاومة الفلسطينية الجسورة. ولمّا قرأنا أخيرا أن حركة حماس وفصائل أخرى تلوّح بالعودة إلى تنظيم "مسيرات العودة .." عند حدود قطاع غزّة مع المحتلين، فإنه تلويحٌ ليس في مطرحه، فلا يحسُن تجريب المجرّب الخائب، سيما أنّ المدنيين الفلسطينيين هم عشبُ إيليت شاكيد والعصابة الإسرائيلية الحاكمة، وقد استشهد 326 فلسطينيا في تلك المسيرات، حمى الله أهل غزة، ونَصَر المقاومين وهم ينجزون المستحيل.